بقلم السيد عدنان العوامي
فجع عالم الثقافة والعلم والأدب برحيل قامة باتساع العالم، كيف لا وقد رحل عنه ركنٌ من أكبر وأهم أركانه الشامخة، ألا وهو الأديب الجليل الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجة (تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جنانه.
عمر حافل بالمناقب مكتظُّ بالمآثر.
كنت أدعوه – إذا هاتفته أو هاتفني: (يا شيخ قاصد)، وهذه التسمية ليست تظرُّفًا ولا ممازحة، فـ(عبد المقصود هو اسمه العلَمُ الظاهريّ، أما حقيقته وجوهره فينبغي أن يدعى (القاصد) لأنه الأكثرُ حرصًا ممن يقصده؛ إن تعلق الأمرُ بالشأن العلميِّ أو الفكريِّ والثقافيِّ والأدبيِّ بشقِّيه الشعرِ والنثرْ.
إنَّ جهودَ الشيخِِ ومساعيَه في تلك المجالات ليست بحاجة إلى بيان، ولو لم يكن إلا الإثنينية لكفته فخرًا، فهي وحدها شهدت تكريم نحوٍ من 460 عالمًا ومفكرًا، وباحًا، وكاتبًا، وأديبًا، وطبيبًا، وإعلاميًّا من مختلِف أنحاء العالم، سعى هو بنفسه إليهم، ودعاهم، فكرَّمهم أفخمَ، وأبهى ما يكون التكريم.
أقول هذا من واقع تجربتي الشخصية، فقد شرُفت بدعوته لي لحضور الاثنينية مرارًا، فلم أجد المدعوين إليها مقصورين على أبناء الوطن، وإنما وجدت بينهم نخبًا متنوعة من البلاد العربية والإسلامية والأجنبية شرقية وغربية.
أمر آخر لا أستطيع تجاوزَه، ألا وهو عنايتُه بمرافقي المكرمين، وإحلالهم المحلَّ اللائقَ، بهم وإحاطتُهم بالعناية والرعاية التي يحيط بها المكرمين أنفسهم بلا فرق أو تمييز.
لا نكران لما تقوم به المؤسسات الثقافية الأهلية، والرسمية، والأندية الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، لكن هذه مقيدة بمنظومة من التعليمات البيروقراطية والروتين، خلافًا لاثنينية الشيخ؛ المتحررة من تلك القيود، ولعل هذا ما مكَّنها من الفوز بقَصَب السَّبْق، والقِدْح المعلَّى في نواح كثيرة.
أحد أصدقائي الشيوخ الأدباء كرم من قبل جهات عدة رسمية وأهلية، وبحكم العلاقة الوثقى التي تربطني به، ووضعه الصحي، فقد كان بحاجة إلى مرافقتي له للعناية به، فكان يصطحبني معه، واتفق أن دعاه الشيخ عبد المقصود لتكريمه في الاثنينية، فاعتذر عن قبول التكريم لاعتلال صحته، وعدم قدرته على ركوب الطائرة، فلم يقبل الشيخ الاعتذار، وأصر على أن يقام التكريم ولو بحضور من ينوب عنه، فذهبت بصحبة ابنه وبعض محبيه، فاستقبلنا الشيخ بنفسه في المطار، واصطحبنا إلى المقر الذي خصصه لإقامتنا، ولم يفارقنا إلا بعد أن اطمئن على ترتب كل ما يتعلق بتوفير وسائل الراحة لنا في مقر إقامتنا، وحين بدء الفعالية وجدنا الشيخ في استقبالنا عند بوابة القصر ليأخذنا إلى قاعة خصصها لاستقبال المكرمين لبرهة من الزمن قبل النزول إلى باحة المحاضرات.
هكذا كان الشيخ (رحمه الله) يعامل ضيوفه سواء المكرمين، أو من في معيَّتهم.
فعاليات الإثنينية
ليس هذا وحدَه الفارقُ بين الشيخ، وتلك الجهات الثقافية الأهلية أو الرسمية. لنأخذ-مثلاً – ما تقدمه الأندية الأدبية للأدباء من خدمات، فسوف نجدها مقصورة على طباعة كتاب واحد، أو اثنين، أو ديوان أو اثنين يوزعهما، أو يبيعهما النادي لصالحه، وفي الفترة الأخيرة صار يعطي المؤلف ثلاثمائةَ نسخةً من نسخة الإصدار، إضافة إلى مكافأة المالية.
أما الاثنينية، فتقوم بطبع كل ما للمكرم من نتاج، إلى جانب توثيق الفعاليَّةِ إلكترونيًّا، وبالفيديو، والأقراص المدمجة، والصور الفوتوغرافية، ورفعها على الشبكة العنكبوتية، وإصدار موادِّها مجلَّدة تجليدًا فاخرًا أنيقًا، وتوزيعها مجًّانًا، حتى تكونت منها موسوعة ضخمة يتمنى كل أديب وباحث أن تزين مكتبته، بما في ذلك تكاليف الشحن إلى خارج جدة، غير مقتصر – في هبتها – على المكرمين والمعارف والضيوف، بل يوصلها إلى من يطلبها كائًنا من كان، وأنى كان مقره.
ولو أردت الإلمامَ بكل جهود الفقيد الراحل فلربما لن يكفيَ – لذلك – مجلد، لكنني سأعطي مثالا واحدًا هو المجموعة الشعرية الكاملة للشاعر الأستاذ عبد الله الجشي (رحمه الله)، التي أصدرها الشيخ عام 1428هـ، 2007م، هذه المجموعة بَقِيتُ مدة من الزمن ليست بالقليلة أتلَقَّى الطلباتٍ من الراغبين في اقتنائها، فأعطيهم رقم الاثنينية، وسرعان ما أتلقى الشكر منه لاستلامه المجموعة.
الشيخ عبد المقصود والقطيف
يوحي هذا العنوان بأن المرادَ منه هي الزيارات الأخيرة التي قام بها لأصدقائه من شخصيات القطيف، الزيارة التي احتفى به فيها الشيخ حسن الصفار، فتلك معروفة لدى جلِّ المثقفين في البلد، إن لم أقل كلهم، لكن ما لا يعلم به إلا القليل ممن فارقونا إلى جوار ربهم، وإن بقي منهم أحد على قيد الحياة فلا أحسبه يتذكر سنة 1382هـ، 1962م، وهي السنة التي بدأت فيها شركة كهرباء مقاطعة الظهران (دبكو – Depco) بإيصال التيار الكهربائي للبيوت والمتاجر في مركز القطيف (القلعة والضواحي المحيطة بها)، وذلك الشاب المكي الأسمر الطرير، يجوب الشوارع التي شقت في القطيف، مشرفًا على تنصيب أعمدة الإنارة والأرصفة التي رست مقاولتها عليه.
تغمد الله الشيخ بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جنانه، وجزاه على منجزاته خير ما يجزي المحسنين.