ألقى رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن الدكتور مسفر القحطاني في منتدى الثلاثاء بالقطيف مساء الثلاثاء 29/ذي الحجة/1428هـ الموافق 8/يناير/2008م، محاضرة بعنوان ” أزمة الوعي الديني..قراءة نقدية في الخطاب الديني المعاصر” قدم لها الأستاذ زكي البحارنة ممهدا للضيف حديثه بإشارة إلى أن العلم والمعرفة ليس ما يدعى، بل ما كان مرتكزا على نظرة نقدية وسعة إدراك يسموان على التسطح والجمود، وينطلق في معالجات الواقع بأفق رحب، لينتج قراءة موضوعية تساهم في تطوير فكر ووعي يبشر بنهوض العقل الإسلامي باتساع مساحة قبوله للقراءات النقدية والانفتاح عليها على أنها مصدر إثراء لا عامل تصادم.
عرف المقدم الحضور بالضيف الحاصل على درجة البكالوريوس من كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعلى درجة الماجستير في السياسة الشرعية من المعهد العالي للقضاء بالرياض، وعلى درجة الدكتوراه في أصول الفقه من جامعة أم القرى، حصد العديد من الجوائز التقديرية، وصدر له العديد من الكتب والبحوث، له مشاركات صحفية ودورات علمية وإدارية ومحاضرات داخلية وخارجية، وهو عضو في عدة لجان استشارية.
بدأ الضيف طرحه بالحديث عن حاجة المجتمع لطرح بعض المواضيع والقضايا التي تفرضها طبيعة الظروف التي يمر بها المجتمع ومن هذه القضايا أزمة الوعي الديني، فعرف بداية مفردة الوعي لغويا من كتاب المصباح المنير للفيومي بأنها الحفظ والتدبر وجمع الشيء كله من قوله تعالى، فجمع فأوعى، ثم عرف مفردة الأزمة بنفس النهج، فاعتمد على كتاب “الرائد” لجبران مسعود الذي عرفها بالقحط والشدة والضيق، وقد تعمق المحاضر في بيان معنى المفردتين بالرجوع للعديد من المصادر المختلفة التي تتفق على أساسيات التعريف ليشرح بعد ذلك ما استخلصه من معان وظفها في عنوان محاضرته، وتحديد هوية القضية التي تبحثها مشيرا لكونها ملتفة بشكل يصعب على الرأي فهم تداخلاته وتناقضاته، فضلا عن حصرها بين جبلين عاليين من الأفكار والقناعات يصعب تغييرها.
بعد ذلك حاول تأصيل هذا المفهوم في الشريعة الإسلامية بقراءة سريعة لحالة العرب قبل الإسلام في المجتمع الجاهلي، ثم الانقلاب الكبير الذي حول الإنسان من حياة الخضوع و الركود والانغلاق، إلى حياة المعرفة والانطلاق وصناعة الحياة القائمة على العلم والبيان والحجج العقلية الدامغة بالرسالة المحمدية مشيرا لدور القرآن الكريم في تكوين العقلية العلمية الرافضة للخرافة والتقليد وتهيئته مناخا فكريا ونفسيا للتدبر فيه، ثم شرع حديثه للمقومات التي بناها القرآن لمنهجه ذاك من رفض الظن في موضع اليقين، وعدم إتباع الأهواء والعواطف في مجال العلم، ورفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، والتقيد بالنظر العقلي ورفض التبعية للسادة والكبراء مستشهدا على كل ذلك بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
بعد ذلك أشار المحاضر إلى أن مخالفة المنهج الذي رسمه القرآن لخلق العقلية العلمية سبب للضلال والانحراف في الأمة خصوصا مع وجود ضعف الوعي الديني وإعمال العقل العلمي في فهم الدين كما حصل مع خوارج الأمة، ليؤكد في نهاية حديثه حول تلك الفكرة بحاجة العالم الإسلامي إلى دعامتين للوصول بيقظتها للكمال، وهما دعامة التجربة الإيمانية الحية، ودعامة الفكر المحرر على شروط المناهج العقلية.
ثم انتقل الدكتور مسفر إلى الحديث عن أزمة الوعي في الخطاب الديني المعاصر، مشيرا لبعض صور ممارساته الخاطئة؛ فبدأ بأزمة التطرف الفكري والديني، فحدد مظاهرها بتعريف مفهوم التطرف بداية والذي عبر عنه بوجود ألغام فكرية يتبناها أفراد يجعلونها قناعات لهم تبقى في عمق أذهانهم منتظرة فتيلا مناسبا لتنفجر، وأشار للأسباب الجذرية لهذه الحالة، والمنطلقة جميعا من قاعدة الانغلاق الفكري في فهم الدين وفقه التدين، ومنها، وجود عقلية البعد الواحد التي تعدم مجالات الحوار وتتعامل ككتلة صلبة ذات وجه واحد يحكم عليه بسرعة دون اعتبار لأسبابه ومكوناته، كالحكم على كل الغرب بالإجرام والكفر مثلا.
ومتعمقا في أسباب التطرف الديني، أشار الدكتور إلى فقر البيئة الثقافية والاجتماعية وتسببها في الكثير من الممارسات الخاطئة، كالتعصب للعلماء والاعتقاد بآرائهم بما لا يحتمل قبول آراء غيرهم، حتى وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية، أو التعصب ضدهم بتقديم الفهم الشخصي على فهمهم، وأخيرا التتلمذ على الأصاغر دون العلماء الراسخين في العلم.
المظهر الثاني لأزمة الوعي في الخطاب الديني كان في نظره غياب فقه المقاصد الشرعية، وفي هذا الجانب، ومقاصد الشريعة عرفها المحاضر بأنها المعاني والأحداث الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها، وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشرع، ولتوضيح فكرة المقاصد، أشار المحاضر إلى مقاصد عامة لم تختص بأحكام معينة، كالعدل ونبذ الفرقة والخلاف، ثم تطرق لبعض الخلل في مفهوم المقاصد، كمقصد الجهاد، ومقصد الجمال والحب والترفيه.
المظهر الثالث أطره المحاضر بتهميش فقه العمران الحضاري، وأشار في هذا المظهر للقطيعة الواضحة بين فقه العمارة وفقه العبادة ولكلاهما خلق الله الخلق فقال” هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” أي طلب إعمارها، وأكدت على ذلك التوجيهات النبوية فقررت قيمة العمل وأهمية الاستثمار للأرض ومدخراتها، وأشار إلى الشواهد العمرانية التي غيرت وجه التاريخ في منظور بول فاليلي حين كتبها عن معرض أقامته إحدى المؤسسات التعليمية في بريطانيا لمآثر المسلمين، كما أشار لشواهد الآثار العمرانية في الأندلس والهند وتركيا على الحضارة الإنسانية.
المظهر الأخير مثله الدكتور القحطاني في اغتيال دور المرأة الإصلاحي وتهميشها فكريا رغم أنها تمثل نصف المجتمع إن لم يكن أكثر، وأشار لتركيز الخطاب الإسلامي الموجه للمرأة في الآونة الأخيرة على حجابها وكرامتها وضرورة مواجهتها للفكر العلماني الذي يستهدف كل ذلك، وبالقدر الذي أكد فيه المحاضر أهمية ذلك، أكد على ضرورة التركيز على الدور الذي يمكنها تأديته فكريا وثقافيا واجتماعيا بدءا من أسرتها مؤكدا أن استسلام المرأة لهذه الضغوط أدى لبروز الكثير من المشاكل لديها كضعف إنتاجها العلمي وانشغالها بالمظاهر في جزء كبير من حياتها، وشدد على حاجة المجتمع للمؤسسات التي تهتم ببناء الوعي الفكري للمرأة.
وقد اكتظت الندوة بالحضور الذين تداخلوا مع المحاضر بالنقاش حول بعض الأفكار التي طرحها، فقد تساءل الدكتور توفيق السيف عن جذور أزمة الوعي الديني، ولخصها في أزمة التعامل مع الحداثة بسبب الانفتاح على تشكلات التطور والتحديث في المجتمعات الأخرى، فيما ناقش الأستاذ ذاكر آل حبيل أزمة التعاطي مع مناهج التجديد والإصلاح في الأمة، متناولا عدة نماذج ساهمت في التراجع عن هذه الأطروحات، وانتقد الأستاذ جاسم مشرف توجيه الاتهام للآخر والإصرار على فرض منهجية أحادية حتى في معالجة الأزمة القائمة حيث تنعدم أساليب الانفتاح على الفكر الآخر.
وتحدث راعي المنتدى الأستاذ جعفر الشايب عن العوامل السياسية التي تسهم في تكريس أزمة الوعي الديني، كانعدام الحريات العامة، واستبطان مواقف سلبية مسبقة من القضايا الحقوقية لدى معظم النخب المثقفة في المجتمعات الإسلامية.
وأخيرا، أشاد الشيخ حسن الصفار بسعي المحاضر إلى طرح آراء تجديدية وتنويرية، مطالبا الجميع بمزيد من الجرأة والإصرار على هذا المنهج التجديدي الذي يساهم في كشف ثغرات الأزمة وأبعادها.
المحاضرة الكاملة: