في أمسية حوارية فكرية، نظمها منتدى الثلاثاء الثقافي مساء أمس الثلاثاء 3 ربيع الأول 1442هـ الموافق 20 أكتوبر 2021م، تحت عنوان “ما تعد به فلسفة الفقه” وجمعت العديد من المهتمين بالفلسفة وعلوم الفقه، استعرض الشيخ الدكتور عبد الجبار الرفاعي مختلف أبعاد “فلسفة الفقه” ودورها في النظر لعملية الاجتهاد الفقهي وتحليلها. وأدار الندوة الأستاذ كاظم الخليفة الذي ساق مقدمة أدبية وفلسفية حول أهمية موضوع الندوة، معرفا بضيفها عبر ثلاث محطات تقاسمت مراحل حياته، هذه الثلاث المحطات أوجزها هو في كتابه، بأنها القرية، الجماعات الإسلامية، والحوزة، قائلا بأنه يصدق عليه تسمية الرجل المؤسسة. وأضاف بأنه يحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة إسلامية، وماجستير في علم الكلام، وبكالوريوس في الدراسات الإسلامية، ودرس علوم الدين في الحوزة العلمية، وصدرت له من الكتب والأبحاث وقام بمراجعة وتصحيح وتحرير أكثر من 144 كتابا، وحصل وحاز على الكثير من الجوائز والدروع والمنح وشهادات التقدير طيلة مسيرته.
بدأ الدكتور الرفاعي حديثه بتوضيح أن فلسفة الفقه تعتبر من الموضوعات الجديدة التي لا تزال لم تتوطن في المدارس الدينية، فهي أحد الفلسفات المضافة التي تدرس الفقه من خارجه ومهمتها البحث العقلي والعلمي في تحليل ومعرفة وتفسير الفقه، ويقصد بها كذلك دراسة المسلمات اللاواعية والتي تمثل قبليات عملية انتاج الفقه، وأن أول من استخدم هذا المصطلح هو مجتهد شبستري في الثمانينات من القرن الماضي، وتم بعد ذلك تداوله بشكل واسع في بعض المجلات العلمية المتخصصة، كما بدأت بعض الجامعات تولي اهتمام بهذا الموضوع. وأوضح أن الفقه هو علم من العلوم التي أنتجها الإنسان، ويعتمد على الأدلة والقواعد في الأصول وما يرتبط بها من علوم كالحديث واللغة، أما فلسفة القه فلا تهتم كثيرا بالعوامل المباشرة المنتجة للفقه، بل بالعوامل الغير مرئية والمخفية ودورها في انتاج الفقه.
وأضاف أن هذا التمييز ينطبق على الفاعلين في هذا المجال حيث أن مهمة الموقف المعرفي الأساسية تتركز في الايضاح والتفسير في حدود القدرة والطاقة البشرية، فالفقيه دوره في تحديد الحكم الشرعي والتعبير عن الحقيقة الدينية بالاعتماد على الأدلة والمناهج المتبعة، أما الفيلسوف فلا يلتزم بأية مسلمات مسبقة ويعتمد على العقل والعلم بشكل أساس. وبين أن مستويات الحقيقة الدينية تكون إما ميتافيزيقية وهو كلما يرتبط بالغيب وهو يحتل مساحة كبيرة في القرآن الكريم، ولا يمكن الوصول له بالوسائل المادية، أو دنيوية وهو ما يرتبط بالشأن الدنيوي كعلم الفقه حسبما يقوله منطق الاجتهاد لارتباطه بالزمان. وأكد على أن علوم الدين كالفقه والأصول والتفسير محكومة بالخطأ والصواب حيث تختلف فيها الاجتهادات وقد تتضارب، لأنها علوم أنتجها البشر وفرضت عليهم عوامل كالثقافة واللغة والبيئة والمحيط وكلها تؤثر على إنتاج هذه العلوم.
واستشهد في حديثه على زمنكانية الاجتهادات الخاصة في مختلف مجالات علوم الدين بعدة قضايا من بينها، أن الدين سابقا كان يفسر كل شيء في الحياة، ولكن مع نشوء العلم الحديث استولى على جزء من مساحة الدين وتحرر منه، وفي مرحلة لاحقة أصبحت الظواهر الدينية تحتاج لتفسير من خلال العقل والعم والتجربة والخبرة البشرية. وعودا على فلسفة الفقه، أوضح المحاضر أن أول من قارب هذا الموضوع بشكل منطقي هو السيد محمد باقر الصدر في الجزء الثاني من كتابه “اقتصادنا” 1960م وفي مقدمته حيث بين علاقة عملية الاجتهاد والذاتية أي العنصر الذاتي للمجتهد وتأثير ذلك على الأمانة الموضوعية. وأضاف أن الشيخ مرتضى مطهري تحدث أيضا حول المسبقات الفكرية لكل فقيه حيث أن فهم النصوص تظهر فيها بصمة الثقافة التي يعيشها الفقيه، ففتوى الفقيه العربي تتأثر بالثقافة العربية، وفتوى الفقيه القروي تفوح منها رائحة القرية، ممثلا علاقة النص مع الوعاء الذهني للفقيه كعلاقة لون الماء مع لون الإناء الموضوع فيه.
وقال في محاضرته أن فلسفة الفقه ليست تكوينا أحاديا، بل مزيجا من علوم الشريعة وفلسفة العلم، وأنها تعتمد على التكوين الرصين في الفقه وعملية الاستنباط الفقهي كأصول الفقه وعلوم التأويل ومختلف علوم الإنسان وتطبيقاتها وأثرها في تحليل المدونة الفقهية. وأضاف أن فلسفة الفقه تكشف عن أثر الرؤية الكلامية للفقيه، كما أنها ترفض فكرة حياد الفقيه الذي يواجه تحيزات مفروضة عليه ترتبط بثقافته ورؤيته، موضحا أن ذلك ينطبق أيضا على اللغويين حيث لا تجد تطابقا بينهم، وهذا الاختلاف مرده للموقف الاعتقادي للغوي نفسه الذي يؤثر على آرائه واجتهاداته.
وأنهى حديثه بالقول أن فلسفة الفقه تقوم بكشف ومعرفة تأثر المجتهد بالمقولات الاعتقادية، وأن هناك صلة عضوية بين أصول الفقه وعلم الكلام فالأصوليون الأوائل كانوا متكلمين والشافعي أول من دون أصول الفقه. وأكد على أن فلسفة الفقه ترفض فكرة حياد المجتهد فهناك تحيزات مفروضة عليه ترتبط بثقافته ورؤيته، مشيرا إلى أن القضاء على المعتزلة كتيار عقلي كان خسارة في الفكر الإسلامي، وأن هدف مثل هذه الأبحاث لا تمثل جحودا بالدين، وإنما تفتح نافذة لفهم الدين بصورة تتناسب مع العصر الذي نعيشه بدلا من الضيق الطارد والتقليدي الذي يفرض الكثير من المحرمات مما يخلق تناقضات مستمرة مع متطلبات العصر ويشكل ضغوطا على ذهنية الأجيال الجديدة.
وناقش المشاركون في اللقاء المحاضر حول مرئياته التي طرحها، والتي اعتبرها البعض بأنها تجديدية واصلاحية، بينما رأى اتخذ البعض الآخر منها موقفا ناقدا كتوقيفية الأحكام القرآنية ومدى جدوائية فلسفة الفقه لقضايا الأمة المعاصرة. فتساءل الدكتور هاشم الصالح عما إذا كانت فلسفة الفقه تؤدي إلى انتاج حكم شرعي بينما أنها لم تكن حاضرة في صدر الإسلام، وهل أنها تبحث أيضا في فلسفة الأحكام الشرعية كالرق والحجاب مثلا وتأثرها بتطور الحياة المدنية والسياسية، وطرح الدكتور حسين العيسى رأيا حول أن التحدي الأكبر لفلسفة الفقه هو المنهج الذي يتعامل معه كمولد للأحكام الناجزة، وأنه يمكن أن تنجز وضع الدين في حقله وموضعه الطبيعي حيث أن كلما يتقدس الدين يصعب نقده. وقال الأستاذ جواد محمد أن هناك توأمة بين الفلسفة وعلوم الفقه، وعلاقة بين الاحكام الفقهية والأنسنة وأن الأحكام مرهونة بزمانها، وتساءلت الدكتورة بتول فاروق عن مدى حضور الاطار المعرفي في دراسات فلسفة الفقه، فهناك بعض الباحثات في تونس لديهم إنجازات مهمة في هذا المجال.
وقال الأستاذ نادر البراهيم أن الموضوع الإنساني الحضاري قد سبق الذات الدينية الإسلامية، متسائلا عما اذا كانت المعاهد والمراكز الدينية قادرة على طرح فكر حضاري يساهم في أخذ الشعوب لمناطق أكثر حداثة مما هي عليه الآن، كما تساءل الأستاذ أحمد مرعي عن مشروع الدكتور يحي محمد حول فلسفة العلم والنظام الوجودي المعياري. وعبر الدكتور أحمد الشهري عن رأيه في توقيفية الأحكام القرآنية حيث أن هناك قيما ممتدة زمانيا ومكانيا وبعض الأحكام المرتبطة بالزمان والمكان، كما اعترض الدكتور محمد الزهراني على مدى جدوائية فلسفة الفقه للأمة وأن البحث فيها يشتت الجهود ويضيعها. وأكد الدكتور أحمد المطرودي على ما توصل إليه المحاضر قائلا أن ذلك ينطبق على دراسة وأبحاث اللغة التي يتضح فيها تأثير الثقافة والبيئة على الباحث وتنعكس على أعماله ونتائج دراساته.
المحاضرة الكاملة على اليوتيوب: