الأستاذة أسماء محمد الهاشم
حينما يُقدَّر لك أن تعيش في أحضان مجتمعٍ تتنازَعُهُ أهواء الاختلاف والتعصب، ورياح التَّطرُّف والتَّزمُّت توشك أن تعصف به، وترى رقاب الفتن تشرئبُّ لزرع بذور الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد ومُكوّناته كحقول ألغام، فإنّ مُحبِّي إيقاد الفتن ونشر الفرقة لن يعدموا وسيلةً لتحقيق غاياتهم الشيطانية، وحينها ستجد نفسك تُردِّدُ صباحاً مساءً: اللَّهُمَّ سلِّمْ، اللَّهُمَّ سلِّمْ.
هذه مُقدّمةٌ مختزلةٌ تُوضِّح جانباً من الحالة الفكرية التي كانت تسود معظم شرائح المجتمع في الوقت الذي أُسِّسَ فيه منتدى الثلاثاء الثقافي، لعلّها تكون إضاءةً في حقّه تكشف جانباً من المشاقِّ التي تَكبَّدَها مُؤسِّسو المنتدى حتّى حقَّقَ ما حقَّقَ، وأصبح ينافس بيوتَ الثقافة العريقة المعدودة ومجالسها، التي رفدتْ الثقافة في بلادنا، وتركت أثراً لا يمكن تجاهله على مدى عقود، ولا تزال.
في أول ندوة حضرتها عام 2014م، كان في استقبالنا مجموعةٌ من الشباب، وفي مُقدّمتهم صاحب البيت ورئيس المنتدى، وأوّل ما لفت نظري أنّ المنزل هو المنتدى، والمنتدى هو المنزل! وهكذا حدثَ وقتَ الانصراف أيضاً، بل كانوا أكثر اهتماماً وعنايةً، وأكّدوا لنا ضرورةَ الاستمرار في التعاون وحضور المنتدى، فذلك أحد أهمّ أهدافه، وقد خرجنا بعدها، ونحن نشعر بالامتنان الكبير.
إنَّ أوّلَ ما يشدُّ انتباه من يحضر المنتدى هو ذلك التَّنوُّع الذي يندر أن يحظى به تجمُّعٌ ثقافيٌّ – على الأقلّ في المنطقة الشّرقيّة – فهو يجمع المُثقّفين من الجنسين، مراعياً الخصوصية لكُلٍّ منهما والاحترام بينهما، كما يمنح الجميع فرصةَ طرحِ ما يراه ويقترحه. أمّا المواضيع المطروحة فإنّني أرى أنها تُنتقى بعنايةٍ شديدةٍ، إذ تُطرَح قضايا فكريةٌ ثابتةٌ ومُستجدّةٌ كالتي تُعزِّز الروابط الاجتماعية، وتُوجِّه إلى احترام المخالفين، وتُناهِضُ الفُرقةَ والتَّطرُّفَ المُدمِّرَينِ لمن ينشد حياةً كريمةً. ويُقدِّمُ الندوات مُفكِّرون قد يختلفون في بعض مبادئهم وأفكارهم، لكنّهم يتّفقون جميعاً على المشتركات – وهي كثيرةٌ – التي يجب على الجميع العمل بها ودعمها، كلٌّ حسب مقدرته، حتى تصبح أصلاً في أخلاقنا وقيمنا الاجتماعية والوطنية.
لقد وُفِّقَ المنتدى في اختيار ضيوفه طوالَ عشرينَ عاماً أيّما توفيق، ليس من حيث التنوّع العلميّ والأكاديميّ فحسب، بل تعدّاهُ إلى المجالات التي ترفد وعي الإنسان، وتلامس وجدانه، وتُبصِّرُهُ بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في النهوض بمجتمعه. ومن تلك الروافد التي اعتنى بها المنتدى على سبيل المثال لا الحصر ما يجري على الساحة الفنية من فنونٍ مرتبطةٍ ارتباطاً وثيقاً بالمدركات الحسيّة والوجدانية، ولا يخفى على أحدٍ دورها في إرساء دعائم أيّ نهضةٍ حديثةٍ، وتأتي في مُقدّمتها الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى وإحياء الأيام العالمية كيوم الطفل والمرأة وحقوق الإنسان وذوي الاحتياجات الخاصة بجميع فئاتهم، وغيرها الكثير.
كما كانت هناك لفتةٌ كبيرةٌ ذاتُ مغزىً نبيلٍ للأعمال الإنسانية التَّطوُّعيّة الفردية والمُؤسّسية، فمن التكافل الاجتماعيّ الماديّ المحسوس في مجال دعم الفقراء والمحتاجين إلى الخدمات الطبية والتوعية الصحية التي يقوم بها أناسٌ لم نكن لنعرفهم ونقدّر جهودهم لولا أنْ قدّمهم إلينا المنتدى مشكوراً.
إنّ جيلاً من الشباب الذي يحضر المنتدى، وينصت، ويسأل، ويناقش، ويتفاعل، ثمّ يشدّه تساؤله إلى البحث والتنقيب عن حقائق الأمور والأشياء بالقراءة والاطلاع حتماً سيُؤثِّرُ في نموّ مجتمعه وإرساء وحدته الوطنية على نحوٍ أفضل.
هذا المنتدى المبارك أضحى أنموذجاً لنشر الخير والدعوة إلى ما يصلح النفوس، وينير العقول بالكلمة الطيبة والعمل الصادق الدؤوب بلا كلل أو ملل، ولقد أصبح كالكوكب الذي تدور في فلكه أقمارٌ وأقمارٌ، تنير دياجير الظلمة الفكرية الّتي سَبَّبَتْها أفكارٌ ومعتقداتٌ لا تمتُّ إلى الدِّين والفكر الحرّ بصلةٍ، وأصبح واقعاً عمليّاً لمن يريد الاحتذاء به، ويُؤكِّدُ أنّ الجهود الخيّرة لن تضيعَ سُدىً.
عشرون عاماً من المسيرة المباركة بدأت، ولا تزالُ في هذا المنزل المبارك في مدينة القطيف العامرة بأهلها وبمُثقّفيها ورُوّاد نهضتها. وهذا ما يُؤكِّدُ أنّ هذه البقعة الطيّبة كانت ولا تزالُ رافداً لا غنىً عنه لأيّ مشروعٍ نهضويٍّ وطنيّ، متجاوزاً كلّ الخلافات المذهبية والقبليّة والمناطقيّة. ومهما تنوّعت الثقافات، وتعدّدت الاختلافات الجغرافية والأعراف والتقاليد فأنت حينما تحضر إلى المنتدى فستلتقي بتنوُّعٍ ثريٍّ بدءاً بالجنسين، وليس انتهاءً بالجنسيات.
إنه مشروعٍ وطنيٍّ نوعيٍّ، واضح الأهداف والمعالم، يتحمل أعباءَهُ رمزٌ وطنيٌّ صادقٌ وفريقُ عملٍ يتحلّى بالصبر والمثابرة لإرساء قواعده وتحقيق غاياته النبيلة.