قدم عبدالله الهميلي الباحث في مجال الفلسفة، قراءة شاملة ووافية حول مدرسة فرانكفورت النقدية، ونشأتها وتطورها، فضلا عن المراحل التي مرت بها جيلاً بعد آخر. وكشف الهميلي، الذي حل ضيفا على منتدى الثلاثاء الثقافي، أمس الأول، في قراءته التي حملت عنوان ” الفلسفة والمجتمع.. مدرسة فرانكفورت انموذجا”، اتجاهات مدرسة فرانكفورت ومؤسسيها، وسط حضور ثقافي، أثرى موضوع الندوة بالمناقشة والتحليل. وأدار اللقاء وليد الهاشم.
وافتتح اللقاء وليد الهاشم بالإشارة إلى دور الفلسفة في ترسيخ الرشد الإنساني لمواجهة الطغيان والإفراط في استخدام القوة، كما أكد على دور النقد في انقاذ إنسان اليوم من محاولات تسخيره للآلة، وتحفيزه نحو الحب الإنساني في مواجهة الجبروت، وعرف بالمحاضر الباحث والشاعر عبد الله علي الهميلي، وقال أنه من مواليد عام 1986م وحاصل على بكالوريوس الصيدلة، العضو المؤسس للحلقة المعرفية في الشرقية، والحائز على المركز الأول لجائزة الشيخ راشد بن حميّد للعلوم والأدب للشعر الفصيح لعام 1435هـ، وله مشاركات ولقاءات فكرية وأدبية داخل وخارج المملكة.
الفلسفة الألمانية
في بداية الورقة، أشار الهميلي بمقدمة للتعرف على ظروف ظهور مدرسة فرانكفورت بالحديث حول جذور النظرية النقدية التي تمتد إلى عصر التنوير والفلسفة الألمانية المثالية، وققال: “مثل هيجل ذروة فلسفة الحداثة من خلال اهتمامه بالجدل كجوهر أساسي، لتحقق الفكرة، وشكلت فلسفته امتداداُ فكريا جعلت من الفلسفة الهيجيلية متناً أساسياُ ضمن نصوص تلاميذه ومؤلفاتهم من أمثال ماكس شتيرنر، فيورباخ، كما تأثر بها الجيل الثاني المعروف بـ”الهيجيليين الشباب” من أمثال ماركس وأنجلز، ولكنهم نقدوها وتجاوزوها، مشكلين الفلسفة “الماركسية” التي اشتغل كارل ماركس على التنظير لها عبر عدة مؤلفات”.
وأوضح الهميلي أنه “بعد وفاته أكمل مشواره أنجلز، فأعطى الصفة العلمية للجدل الماركسي عبر مؤلفه “ديالكتيك الطبيعة””، مضيفا أن “أطروحة الماركسية نجحت سيسيولوجياً، ولكنها فشلت على المستوى السياسي، فمع انهيار الامبراطوريات الكبرى بعد الحرب الكونية الأولى، وصعود النظريات العرقية والفاشية، برز أغزر فيلسوف ماركسي بعد ماركس وهو “جورج لوكاش” وفلاسفة آخرون، محاولين إكمال المشروع، كما حاولت أنظمة شمولية أن تحقق تلك الرؤية بالقمع، ففي تلك الظروف قامت مدرسة فرانكفورت النقدية.
الأسس الثلاثة
وتطرق المحاضر للأسباب الموضوعية لنشوء هذه المدرسة المتمثلة في “الآثار المادية والإنسانية للحرب العالمية الأولى، وقيام أول دولة اشتراكية في روسيا، وجمهورية “فايمار” بألمانيا، وفشل الحركات العمالية في أوروبا، وتحولها عن أهدافها الطبقية إلى شركات مساهمة”، موضحاً “الأسس الثلاثة للفرانكفورتية، وهي تأسيس نظرية نقدية قائمة على نقد الفلسفات الوضعية، وديالكتيك النظرية والممارسة، والانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومعالجة عيوبه، وهي ثمرة لقاءات مشتركة بين عشرين مفكراً في فرانكفورت لمناقشة الفلسفة والماركسية والإستقلالية النسبية للعلوم الاجتماعية، وارتباط أزمة علم الاجتماع بأزمة المجتمع الرأسمالي البرجوازي”.
وبين الهميلي أن ذلك أدى إلى “تبلور فكرة تأسيس معهد للبحث الإجتماعي في جامعة فرانكفورت، ووضع اللبنات الأولى لنظرية نقدية للمجتمع سنة 1923م هدفه القيام بأبحاث ميدانية نقدية، تربط النظرية بالممارسة العملية بطريقة ديالكتيكية والاسترشاد بالفلسفة الماركسية، لكن مع صعود المد النازي في منتصف الثلاثينات، اضطر مؤسسو هذه المدرسة إلى مغادرة ألمانيا بداية إلى فرنسا وبريطانيا ومن ثم إلى أمريكا”.
أبرز اللاعبين
وحول أبرز اللاعبين في هذه المدرسة، ذكر الهميلي “ماكس هوركهايمر” الذي ألف عدة كتب نقدية وفلسفية، وتيودور أدورنو صاحب نظرية فلسفة الجمال والفن، وهربرت ماركوزه الذي جمع بين الفلسفة النقدية لمدرسة فرانكفورت والفلسفة الفينومينولجية، إريك فروم وهو فيلسوف وطبيب نفسي كان من الرعيل الثالث من مدرسة التحليل النفسي، الذي أضاف إلى فلسفة التحليل النفسي الرؤية الإقتصادية للمجتمع، ثم انفصل بعد ذلك عن فرانكفورت، وأسس علم النفس الإجتماعي وتميز بين الجمع بين الفرويدية واليونغية والماركسية في تحليلاته. واضاف المحاضر أن أعضاء مدرسة فرانكفورت لم يكونوا فلاسفة فحسب، بل كانوا مفكرين موسوعيين حاولوا الجمع بين عدة اختصاصات، وبالإمكان اعتبارها نظرية مصححة للماركسية بعدما وصلت لحالة الدوغما.
وتطرق المحاضر إلى الفرق بين النظرية “التقليدية” والنظرية “النقدية” بالقول إنْ “التقليدية تستمد جذورها من الأطروحات الماركسية، حيث تتكلم عن الصراع الطبقي الموجود بين البرجوازيين والبروليتاريا، بين الذين يملكون، والذين لا يملكون، في حين أن النظرية النقدية ترى أن الخلاف هو ما بين الظالمين والمظلومين، وتم استبدال مصطلح الطبقة العاملة، بمصطلح الأقليات، واستبدل الصراع الطبقي بالصراع العرقي والجنسي، والسبب في ذلك المآلات والمآزق التي تم ارتكابها باسم الماركسية من الفوضى والمجاعات والقتل.
جولة المداخلات
في جولة المداخلات، عقب الدكتور حسن البريكي على الورقة مشيرا إلى استفادة يهود ألمانيا من اجواء وفكر التنوير، بحيث أنهم استطاعوا أن يندمجوا في المجتمع بعد أن كانوا منبوذين اجتماعياً، ويؤسسوا مثل هذه المدرسة التي مزجت بين نقد الماركسية وتطوير علم الاجتماع والتأسيس لفكرة تشيؤ الانسان، ونبه لخطورة العقل الأداتي الذي يتحول لأغراض مصلحية، كما أشاد محمد جعفر المسكين بمنهجية المحاضر وجمعه النقيضين الشعر والفلسفة، وتساءل محمد الحبابي عن مفهوم وتعريف الفلسفة وماذا تقدمه الفلسفة للمجتمع، أما الفنان عبد العظيم شلي، فتساءل عن سر تمركز أهم فلاسفة العالم في مثلث ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، وعن غياب الفلاسفة العرب والمسلمين في العصر الحاضر.
في مداخلته أشار زكي أبو السعود إلى الفرق بين الفرانكفوتية عند التأسيس واليوم، لافتاً النظر إلى أن بروزها ارتبط بحراك التحرر الوطني والموقف من الماركسية، غير أنها وقفت عند حدود النظرية، ولم توجد أي تأثير على الواقع الاجتماعي والسياسي في أوروبا، كما شارك أحمد رضا المدلوح معبراً عن اعجابه بالنظرية النقدية للمدرسة حيث أنزلت الفكر النظري للواقع الاجتماعي مشيداً بنظرية الفعل التواصلي لماس كآلية يتم تطبيقها في المجال الوظيفي، معتبراً أن الديمقراطية الاشتراكية وكذلك العمل على تمكين المرأة كلها نتائج لهذه المدرسة. وتحدث نادر البراهيم بإيجابية عن نظرية الفعل التواصلي والتي انبثقت لدى مفكري هذه المدرسة بعد التطور التقني وتأثيراته الاجتماعية، فكانت مفهوماً لمواجهة الصراع الطبقي، كما عقب احمد قاسم حول التوفيق بين المؤدى المادي والمعنوي لأي نظرية مشيرا للإنتقادات التي وجهت للفرانكفوتية، كما اختلف مع المحاضر في قوله بتجني ابن رشد علينا بكتابه تهافت الفلاسفة قائلاً أنه لولا بن رشد لما برز الغزالي.