تواصلاً مع الأفق المعرفي في الفكر النقدي والفلسفي وانعكاساته الاجتماعية، قدم منتدى الثلاثاء الثقافي قراءة في اتجاهات مدرسة فرانكفورت للباحث في مجال الفلسفة الأستاذ عبد الله الهميلي تحت عنوان “الفلسفة والمجتمع.. مدرسة فرانكفورت انموذجا” وسط حضور ثقافي أثرى موضوع الندوة بالمناقشة والتحليل، وذلك مساء الثلاثاء 14 جمادى الثاني 1440هـ الموافق 19 فبراير 2019م فيما أدار اللقاء الأستاذ وليد الهاشم.
وقد صاحب الندوة عدة فعاليات شملت تكريم الطالبتين منار محمد الحبابي وبتول ضياء آل حسين الفائزتان بجائزة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم عن فئة الطالب المميز وتحدثت كل منهما عن نهمهما في التحصيل الدراسي وانعكاس انخراطهما في النشاط الاجتماعي على وعيهما الثقافي، كما ضمت الفعاليات المعرض التشكيلي للفنانة أفراح حسين الحساوي التي تحدثت عن نشاطها الفني ومشاركاتها المتميزة في مراحل رحلتها العملية والوظيفية. وشاهد الحضور قبل الندوة فيلماً قصيراً حول “العدالة الاجتماعية” بمناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، وحل رجل الأعمال الأستاذ عبد الباقي البصارى الشخصية الثقافية والوطنية الداعمة للفعاليات الاجتماعية كضيف شرف لهذه الأمسية والذي شرف جميع المشاركين بتسليمهم دروع المنتدى التقديرية.
افتتح اللقاء الأستاذ وليد الهاشم بالإشارة إلى دور الفلسفة في ترسيخ الرشد الإنساني لمواجهة الطغيان والإفراط في استخدام القوة، كما أكد على دور النقد في انقاذ إنسان اليوم من محاولات تسخيره للآلة، وتحفيزه نحو الحب الإنساني في مواجهة الجبروت، وعرف بالمحاضر الباحث والشاعر الأستاذ عبد الله علي الهميلي، مواليد عام 1986م والحاصل على بكالوريوس الصيدلة، العضو المؤسس للحلقة المعرفية في الشرقية، والحائز على المركز الأول لجائزة الشيخ راشد بن حميّد للعلوم والأدب للشعر الفصيح لعام 1435هـ، وله مشاركات ولقاءات فكرية وأدبية داخل وخارج المملكة.
في بداية الورقة أشار الأستاذ الهميلي بمقدمة للتعرف على ظروف ظهور مدرسة فرانكفورت بالحديث حول جذور النظرية النقدية التي تمتد إلى عصر التنوير والفلسفة الألمانية المثالية، حيث مثل هيجل ذروة فلسفة الحداثة من خلال اهتمامه بالجدل كجوهر أساسي لتحقق الفكرة، وشكلت فلسفته امتداداُ فكريا جعلت من الفلسفة الهيجيلية متناً أساسياُ ضمن نصوص تلاميذه ومؤلفاتهم من أمثال ماكس شتيرنر، فيورباخ، كما تأثر بها الجيل الثاني المعروف “بالهيجيليين الشباب” من أمثال ماركس وأنجلز ولكنهم نقدوها وتجاوزوها، مشكلين الفلسفة “الماركسية” التي اشتغل كارل ماركس على التنظير لها عبر عدة مؤلفات. وأوضح أنه بعد وفاته أكمل مشواره أنجلز فأعطى الصفة العلمية للجدل الماركسي عبر مؤلفه “ديالكتيك الطبيعة”، مضيفا أن أطروحة الماركسية نجحت سيسيولوجياً ولكنها فشلت على المستوى السياسي، فمع انهيار الامبراطوريات الكبرى بعد الحرب الكونية الأولى وصعود النظريات العرقية والفاشية، برز أغزر فيلسوف ماركسي بعد ماركس وهو “جورج لوكاش” وفلاسفة آخرون محاولين إكمال المشروع، كما حاولت أنظمة شمولية أن تحقق تلك الرؤية بالقمع، ففي تلك الظروف قامت مدرسة فرانكفورت النقدية.
وتطرق المحاضر للأسباب الموضوعية لنشوء هذه المدرسة المتمثلة في الآثار المادية والإنسانية للحرب العالمية الأولى، وقيام أول دولة اشتراكية في روسيا، وجمهورية “فايمار” بألمانيا، وفشل الحركات العمالية في أوروبا وتحولها عن أهدافها الطبقية إلى شركات مساهمة، موضحاً الأسس الثلاثة للفرانكفورتية وهي تأسيس نظرية نقدية قائمة على نقد الفلسفات الوضعية، وديالكتيك النظرية والممارسة، والانتقال من نقد الفكر إلى نقد المجتمع ومعالجة عيوبه، وهي ثمرة لقاءات مشتركة بين عشرين مفكراً في فرانكفورت لمناقشة الفلسفة والماركسية والإستقلالية النسبية للعلوم الاجتماعية، وارتباط أزمة علم الاجتماع بأزمة المجتمع الرأسمالي البرجوازي. وبين الهميلي أن ذلك أدى إلى تبلور فكرة تأسيس معهد للبحث الإجتماعي في جامعة فرانكفورت ووضع اللبنات الأولى لنظرية نقدية للمجتمع سنة 1923م هدفه القيام بأبحاث ميدانية نقدية تربط النظرية بالممارسة العملية بطريقة ديالكتيكية والاسترشاد بالفلسفة الماركسية، لكن مع صعود المد النازي في منتصف الثلاثينات اضطر مؤسسوا هذه المدرسة إلى مغادرة ألمانيا بداية إلى فرنسا وبريطانيا ومن ثم إلى أمريكا.
وحول أبرز اللاعبين في هذه المدرسة، ذكر الأستاذ الهميلي ماكس هوركهايمر الذي ألف عدة كتب نقدية وفلسفية، وتيودور أدورنو صاحب نظرية فلسفة الجمال والفن، وهربرت ماركوزه الذي جمع بين الفلسفة النقدية لمدرسة فرانكفورت والفلسفة الفينومينولجية، إريك فروم وهو فيلسوف وطبيب نفسي كان من الرعيل الثالث من مدرسة التحليل النفسي الذي أضاف إلى فلسفة التحليل النفسي الرؤية الإقتصادية للمجتمع، ثم انفصل بعد ذلك عن فرانكفورت وأسس علم النفس الإجتماعي وتميز بين الجمع بين الفرويدية واليونغية والماركسية في تحليلاته. واضاف المحاضر أن أعضاء مدرسة فرانكفورت لم يكونوا فلاسفة فحسب بل كانوا مفكرين موسوعيين حاولوا الجمع بين عدة اختصاصات، وبالإمكان اعتبارها نظرية مصححة للماركسية بعدما وصلت لحالة الدوغما وأيضا اكمال لمشروع الفلسفة الألمانية ممثلة في العقل النقدي، كما عملت على انتقاد الرأسمالية والإشتراكية السوفيتية ومعالجة القصور الذي بدا لهم في الماركسية الكلاسيكية ووسيلتها في تغيير المجتمع.
من جانب آخر، تطرق المحاضر إلى الفرق بين النظرية التقليدية والنظرية النقدية بالقول أنْ التقليدية تستمد جذورها من الأطروحات الماركسية حيث تتكلم عن الصراع الطبقي الموجود بين البرجوازيين والبروليتاريا، بين الذين يملكون والذين لايملكون، في حين أن النظرية النقدية ترى أن الخلاف هو ما بين الظالمين والمظلومين، وتم استبدال مصطلح الطبقة العاملة بمصطلح الأقليات، واستبدل الصراع الطبقي بالصراع العرقي والجنسي، والسبب في ذلك المآلات والمآزق التي تم ارتكابها باسم الماركسية من الفوضى والمجاعات والقتل.
وأسهب المحاضر في الحديث حول رائد النقدية الجديدة “هابرماس” التي تتميز بدفاعها عن الفرد ضد كل سلطة ودفاعها عن العقل ضد كل مظاهر اللاعقلانية التي سادت العالم الغربي في أواسط القرن العشرين، مضيفاً أن الفكرة المهمة التي كان يطرحها هابرماس في الهرمينوطيقا النقدية هي نقد الأديولوجيات والتي بلورها في الستينات ضمن نظريته “المعرفة والمصلحة” التي ترى أن المعرفة لا يمكن أن تكون خارجة عن مصلحة معينة مرتبطة بالواقع الإجتماعي. وأشار الهميلي إلى اهتمام هابرماس باللغة حيث وجد فيها احدى تجليات مشكلة العقلانية، موضحا أنه درس اللسانيات خاصة عند تشومسكي وأوستين وسيرل، وكذلك التأثير الاجتماعي للغة من خلال نظرية العقل التواصلي التي جعلت هابرماس يتنقل لأكثر من مجال علمي لتحرير الفكر المعاصر من الخطاب المتمركز حول فلسفة الذات. كما تطرق المحاضر لمحاولة هابرماس تفكيك البنية الإقتصادية والاجتماعية التي انتجت العقل الأداتي ومكنته من الهيمنة على الوعي الفردي والجماعي حيث أهتم بإعادة صياغة العقل الغربي ومساءلته على ضوء العقل التواصلي من أجل إيجاد وحدة اجتماعية ثقافية، تتوخى بناء وعي حر لا تحكمه المؤسسات أو الأديولوجيات، ومع اخلاصه لرسالته الفلسفية لكنه لم يمنعه ذلك من ممارسة نقد أطروحات أساتذة من الرعيل الأول في مدرسة فرانكفورت.
في جولة المداخلات، عقب الدكتور حسن البريكي على الورقة مشيرا إلى استفادة يهود ألمانيا من اجواء وفكر التنوير بحيث أنهم استطاعوا أن يندمجوا في المجتمع بعد أن كانوا منبوذين اجتماعياً ويؤسسوا مثل هذه المدرسة التي مزجت بين نقد الماركسية وتطوير علم الاجتماع والتأسيس لفكرة تشيؤ الانسان، ونبه لخطورة العقل الأداتي الذي يتحول لأغراض مصلحية، كما أشاد الأستاذ محمد جعفر المسكين بمنهجية المحاضر وجمعه النقيضين الشعر والفلسفة، وتساءل الأستاذ محمد الحبابي عن مفهوم وتعريف الفلسفة وماذا تقدمه الفلسفة للمجتمع، أما الفنان عبد العظيم شلي فتساءل عن سر تمركز أهم فلاسفة العالم في مثلث ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، وعن غياب الفلاسفة العرب والمسلمين في العصر الحاضر.
في مداخلته أشار الأستاذ زكي أبو السعود إلى الفرق بين الفرانكفوتية عند التأسيس واليوم، لافتاً النظر إلى أن بروزها ارتبط بحراك التحرر الوطني والموقف من الماركسية، غير أنها وقفت عند حدود النظرية ولم توجد أي تأثير على الواقع الاجتماعي والسياسي في أوربا، كما شارك الأستاذ أحمد رضا المدلوح معبراُ عن اعجابه بالنظرية النقدية للمدرسة حيث أنزلت الفكر النظري للواقع الاجتماعي مشيداً بنظرية الفعل التواصلي لماس كآلية يتم تطبيقها في المجال الوظيفي، معتبراً أن الديمقراطية الاشتراكية وكذلك العمل على تمكين المرأة كلها نتائج لهذه المدرسة.
وتحدث الأستاذ نادر البراهيم بإيجابية عن نظرية الفعل التواصلي والتي انبثقت لدى مفكري هذه المدرسة بعد التطور التقني وتأثيراته الاجتماعية فكانت مفهوماً لمواجهة الصراع الطبقي، كما أشار الاستاذ احمد قاسم في مداخلته الى الجانب المادي والصوري في النظريات الفلسفية، واهمية الاطلاع على مدارس الفلسفة الاوربية، مذكرا بنقد الجابري للفلسفة الألمانية بانها تجريدية، كما اختلف مع المحاضر في قوله بأنه تجنى علينا الغزالي بكتابه تهافت الفلاسفة معقبا بأنه لولا الغزالي لما خرج ابن رشد.
وفي نهاية اللقاء تحدث ضيف شرف الأمسية الأستاذ عبد الباقي البصارى معبراً عن إشادته بالنشاط التنويري لمنتدى الثلاثاء الثقافي واختياره سيدة على رأس اللجنة التنفيذية، مشيراً إلى أن مواكبة المستجدات في العمل الثقافي عامل مساعد على استمرار العمل والتغلب على صعوباته، كما أثنى على الطالبتين المكرمتين في هذه الأمسية، والفنانة التشكيلية، مختتماً كلمته بالثناء على المحاضر مبيناً اهمية التواصل مع التجارب الفكرية والفلسفية العالمية في الندوات الحوارية.
التقرير على اليويتوب:
المحاضرة الكاملة:
كلمة الفنانة أفراح الحساوي:
كلمة الطالبة منار الحبابي:
كلمة ضيف الشرف الأستاذ عبد الباقي البصارة: