حوار حول أطروحة موت الواقع في منتدى الثلاثاء

661

في ندوة فلسفية حضرها مجموعة من المثقفين والمهتمين وحاضر فيها الأستاذ شايع بن هذال الوقيان، نظم منتدى الثلاثاء الثقافي ندوته الثامنة لموسمه الثقافي الثامن عشر تحت عنوان “أطروحة موت الواقع في الفكر الفلسفي المعاصر”، وذلك مساء الثلاثاء 7 ربيع الثاني 1439هـ الموافق 26 ديسمبر 2017م. وضمن الفعاليات المصاحبة للندوة تم عرض فلم “قاري” للمخرج محمد سلمان، كما ألقى الأستاذ منصور علي رئيس مجموعة “حكايا الفن” كلمة استعرض فيها أهداف وأنشطة المجموعة التي تضم أكثر من 120 فنانا في مختلف المجالات، حيث أقامت المجموعة معرضا فنيا بالمنتدى. كما تم تكريم الطالبة الجامعية فاطمة عبد المنعم الشيخ لإنجازاتها في البحوث العلمية في مجال التغذية وإطلاق وكالة “ناسا” اسمها على أحد الكويكبات. أدار الندوة الباحث الأستاذ عبد الله الهميلي الذي عرج على مفاهيم فلسفية حديثة مشددا على أهمية دراسة أطروحة موت الواقع والتوجهات الفلسفية المختلفة حوله، كما عرف بالمحاضر بأنه حاصل على ماجستير فلسفة تربية من جامعة فلوريدا، ومؤلف لكتابين هما “الفلسفة بين الفن والايدلوجيا” و “قراءات في الخطاب الفلسفي”، كما أنه عضو مؤسس لحلقة الرياض الفلسفية.
بدأ الأستاذ شايع الوقيان حديثه باستعراض أهم سمات الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة وهو إعادة صياغة مفهوم الواقع أو بالأحرى تفكيكه وتقويض الأساس الميتافيزيقي الذي يستند عليه، حيث أنه لم يعد ثمة واقع واحد بل واقعات، بل لم يعد ثمة واقع بل تأويلات (حسب عبارة نيتشه الشهيرة). وقال أن مفهوم الواقع كما يتجلى في الفكر الغربي مرتبط بمذهب يدعى أحيانا بالواقعية الميتافيزيقية، وهو مذهب ينص على أن هناك واقعاً واحداً موضوعياً مستقلاً عن الذوات المدركة ويعد مرجعاً لتمييز القضايا الصادقة من القضايا الكاذبة. وأشار إلى أن نظرية الصدق الملائمة لهذا المذهب هي نظرية المطابقة، وهذه النظرية تنص على أن القضية “ق” تكون صادقة إذا كانت “ق”، وبالصيغة الدقيقة التي جاء بها ألفرد تارسكي نقول: إن “ق” تكون صادقة إذا وإذا فقط كانت “ق”، بحيث تكون “ق” هي العبارة و “ق” هي الشرط الواقعي لقيمة الصدق.
وأوضح أنه في فلسفة اللغة فإن مفهوم “المرجع” كما أصل له فريجه يمثل الشرط الواقعي لصحة العلامة، وهكذا فإن كلمة (سقراط) تحيل على الشخص سقراط عبر ما يسميه فريجه بالمعنى. وهكذا فإن ثمة علاقة وطيدة بين نظرية المرجع ونظرية المطابقة وكلتاهما لهما أساس ميتافيزيقي واحد وهو وجود واقع مستقل عن العقول. كما أوضح أن نظرية المطابقة الواقعية ليست جديدة بل لها ماض عريق يعود إلى أرسطو، فهو يقول في كتاب (الميتافيزيقا) “أن تقول عن الشيء الذي هو أنه ليس هو أو عن الشيء الذي ليس هو أنه هو، فهذا قول كاذب، وأما أن تقول عن الشيء الذي هو أنه هو والذي ليس هو أنه ليس هو، فهو قول صادق”. وقد أشار هايدجر إلى أن الصيغة الكلاسيكية لفكرة أرسطو والتي تقول (الصدق هو مطابقة الفكر للواقع) تعود إلى ابن سينا والذي أخذها بدوره من إسحاق الإسرائيلي في كتابه (التعريفات) وهو معروف عربياً بكتاب (الرسوم والحدود). وواصل المحاضر قوله أن أول ضربة قوية وجهت لنظرية المطابقة وبالتالي لمفهوم الواقع أتت من إيمانويل كانط، فمن المعروف أن كانط، في ثورته الكوبرنيكية، جعل صلاحية الموضوع مرتبطة بانسجامه مع تصورات العقل القبلية، وليس العكس كما كان يظن التجريبيون مثل لوك وبيركلي وهيوم. وهكذا فإن الموضوع (الشيء) هو من يتطابق مع الفكر وليس العكس، وبهذا المنهج الترانسنتدالي، أي المنهج الذي يبحث عن الشروط العقلية التي تجعل معرفتنا بالواقع ممكنة، يقوض بشكل راديكالي وجودَ واقعٍ مستقلٍ. وأضاف أن كانط يقر بوجود عالم-في-ذاته يقف إزاء عالم الظواهر، ولكنه بالمقابل ينكر أية معرفة به، لكن، قبل كانط، ظهر رأي غريب ومقلق للفيلسوف الإيرلندي جورج بيركلي تعبر عنه الجملة التالية “أن يوجد شيء معناه أن يُدرَك”، وهو هنا يوحِّد بين المعرفة والوجود.
وبين الوقيان أن الفرق بين بيركلي وكانط هو أن الأخير يقرر أن الشيء موجود بذاته ولكننا لن نعرفه إطلاقا إلا عبر تصوراتنا العقلية القبلية وعبر صورتي الزمان والمكان: صورتي ملكة الحس، وكذلك فكانط يسلم بوجود تصورات قبلية وهذا ما لم يقل به بيركلي. وأضاف أن الواقع تبعاً للكانطية (والبيركلية أيضا) لم يعد مستقلا بل يدين في وجوده (عند بيركلي) وفي شكله (عند كانط) للعقل وتصوراته. ونقل أن الواقع مصنوع من قبل الإنسان ومن اختلاق عقل الإنسان، ولكن هذا العقل هو ملكة مشتركة بين كل البشر في أي زمان ومكان، ومن ثم فهو عقلي موضوعي، مبينا أن الفرق بين موقف كانط وموقف ما بعد الحداثة يكمن فقط في أن العقل الكانطي كلي، وأما العقل ما بعد الحداثي فثقافي تاريخي متغير.
وقال أن الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة لم يأت بشيء جديد كل الجدة، بل هو يعيد في أسلوب جديد ما تم تداوله منذ عصور قديمة تعود لكانط وبيركلي بل وتعود للفكر السفسطائي، فعندما يقول بروتاغوراس (إن الإنسان معيار كل شيء) فإنه يعبر عن النسبية المعرفية التي سوف يجعلها فكر ما بعد الحداثة شعارَه “الميتافيزيقي”، مضيفا أنه إذا كانت قيم الصدق (إضافة لقيم الخير وقيم الجمال) تنهض في إطار الاعتبارات الذاتية أو الثقافية فإن الواقع هنا لا يعود له أي دور. وأضاف أننا هنا نسجل نقطة تلاق بين فكر ما بعد الحداثة وفكر السوفسطائيين، فهما معا يؤمنان بأن العقل نسبي وليس كليا، أما الفكر الكانطي فإنه يطرح ما يمكن اعتباره كلية إنسانية ولكن نسبية واقعية. وأوضح أن الواقع يرى بالنسبة لعقل إنساني ذي صفات كلية (مشتركة)، وأن فكر ما بعد الحداثة هو تطوير وتنويع على الفكر السوفطائي، فهذا الفكر يراهن على البلاغة وليس على المنطق، على الإقناع وليس على الحجاج البرهاني. وواصل الباحث أنه قد يصح القول بأن الأب الروحي لفلسفة ما بعد الحداثة هو نيتشه، وهذا الرجل يرى أن كل القيم محايثة وليست ذات أصل متعال أو مفارق للزمان وللخبرة البشرية، ومادامت الخبرة البشرية تتغير فالقيم تتغير وليس لها أصل ثابت. وأوضح أن منهج قلب القيم النيتشوي يرتكز على قلب فلسفة أفلاطون، فإذا كانت القيم وإذا كان الواقع عند أفلاطون يكتسب وجوده من عالم المثل فالعكس صحيح عند نيتشه؛ فالواقع، الذي هو وحسب إرادة القوة، هو ما يقرر ويحدد نظام القيم. وقال أنه في القرن العشرين، ظهرت وخاصة في النصف الثاني، موجة ارتيابية عارمة يعبر عنها بما بعد الحداثة، فإذا كانت الحداثة تمجد العقل والمطلق والتقدم الحضاري والتطور البيولوجي والحرية والمساواة فإن ما بعد الحداثة تمجد الطرف النقيض: اللاعقل، النسبي، الانقطاع التاريخي والبرادايم والنسبية الثقافية. ويرى الوقيان أن الصراع بين الحداثة وما بعدها يتعلق جوهريا بفكرة الواقع، فالحداثة تقر بوجود واقع مستقل عن الإنسان والثقافة ومتعال على التغيرات التاريخية، بينما ترى ما بعد الحداثة أن الواقع مجرد أسطورة حداثية وليس ثمة وجود له بل هناك صور عديدة تحاول خلق واقعها الخاص.
وأضاف أن مفكري ما بعد الحداثة يكاد يجمعون على أن الواقع لم يعد واحداً وأنه لم يعد مرجعاً يمكن الاستناد إليه في الأحكام، فالواقع صار لغة واللغة ذات طابع ثقافي وزماني، وبما أن اللغة في هذا الفكر هي طريقنا الوحيد للواقع فإن الواقع ذاته سوف يكتسب من اللغة نسبيتها وتاريخيتها. وأوضح أن الواقع سواء أكان الواقع التجريبي أو الواقع الأخلاقي أو الجمالي ليس شيئا واحدا كليا مستقلا عن العقول المدركة، إنما لكل جماعة لغوية وفئة ثقافية واقعها، بل لكل فرد مخططه التصوري واللغوي الذي يصبح الواقع فيه واقعا فرديا وخاصا، كما أن غياب الواقع يعني في خاتمة المطاف غياب أي قيمة معيارية يمكن اللجوء إليها. واختتم حديثه بالقول أن الفلسفة الكانطية كانت أولى الإشارات القوية لغياب الواقع بمعناها الميتافيزيقي؛ فالواقع أضحى صورة للعقل، ومع الفكر المعاصر الذي جعل كل شيء لغة صار الواقع لغة وانفتح على التأويل بل إنه خضع للعب الدلالي الذي يجعل الإحالة النهائية إلى الواقع أمراً مستحيلا.
وبعد كلمة المحاضر شارك الحضور في مداخلات وحوارات معمقة ومتنوعة حول ما تم طرحه من آراء وأفكار، شملت جوانب مختلفة ومتعددة للموضوع.

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد