استقطبت طاولة منتدى الثلاثاء الثقافي نقاشاً علمياً حول دور العقل والعلم وأثرهما في التفسير العلمي للكون، ضمن ندوة علمية ثرية تحت عنوان “العلاقة بين العقل والعلم .. النظرية الكونية نموذجاً” باستضافة الدكتور أنور صالح آل محمد، وذلك مساء الثلاثاء 16 جمادى الأول 1440هـ الموافق 22 يناير 2019م وسط حضور ثقافي أثرى طاولة النقاش بالتساؤلات والآراء.
وصاحب الندوة عدة فعاليات شملت تكريم “ملتقى قبس” الثقافي الذي يعنى بمناقشة الكتب الفكرية والأدبية عبر لقاءات شهرية بهدف تعزيز القراءة النقدية الواعية حيث تحدث الأستاذ محمد المحسن حول برامج الملتقى، كما أقام الفنان وليد فهد الحسين معلم التربية الفنية بالهيئة الملكية بالجبيل معرضاً تشكيلياً في الفن السريالي وفن الحرف العربي، وتحدث عن تجربته الفنية التي دمجت بين الفن التشكيلي وفن النجارة. وشاهد الحضور فيلماً قصيراً “احساس” حول سلوك الرفق الانساني، وقد حل الأستاذ السيد علوي باقر الخباز كضيف شرف في هذه الأمسية وهو الناشط الاجتماعي والثقافي المعروف والرئيس السابق للجنة الثقافية الأهلية بمركز الخدمة الاجتماعية بمحافظة القطيف ورئيس نادي البدر الرياضي، حيث شرف جميع المشاركين بتسليمهم دروع المنتدى .
أدار اللقاء الأستاذ أمين الصفار عضو الهيئة التنفيذية للمنتدى مفتتحاَ الندوة بالإشارة إلى اهتمام المنتدى بتنفيذ بعض حلقات النقاش في العلوم المعاصرة لأهميتها الفكرية، كما عرف بالمحاضر الدكتور أنور صالح آل محمد الحاصل على دكتوراة الفيزياء من جامعة تكساس، وهو عضو مؤسس لجمعية الفلك بالقطيف ورئيسها الحالي، وعضو الجمعية الأمريكية الفلكية، والجمعية الأمريكية الفيزيائية، وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية، وقدم عدة أبحاث منشورة في مجال الفيزياء الفلكية والكونيات.
استهل الدكتور آل محمد ورقته بالحديث عن عناصر الوجود الانساني العقل، الروح، النفس، الجسد، مستفيضاً في الحديث عن العقل وعرّفه بانه إمام الجسد ورائد الروح والمميز بين الحق والباطل، وذكر أن العقل قسمان: نظري وعملي في حكمه على الأفعال كتقبيح الظلم، كما أشار إلى أن العقل يتأثر بباقي أجزاء الوجود الإنساني فيقوى ويتكامل بالممارسة ويضعف ويتردى بالإهمال، وتؤثر فيه نوازع النفس والروح ضعفا وقوة. وأوضح أن الأحكام العقلية من حيث المبدأ تعالج جميع عالم الإمكان إجمالا وتفصيلا إذا توفرت المقومات والعناصر اللازمة للحكم والتي يمكن الحصول عليها بغير العقل مثل الطرق العلمية والكشفية، مشبهاً العقل بالمصباح الأقرب للإنسان ذي المدى المحدود بذاته والذي إذا انضمت له مصابيح وأنوار أخرى كالعلم والوحي يصبح ذو مدى واسع جدا ليس له حدود معلومة.
وتطرق المحاضر لمسألة العلم وحدوده مبتدءاً بتعريف العلم بأنه “النور الكاشف عن الواقع وهو رائد العقل”، موضحاً أن حدود العلم بأدواته العقلية والمنطقية والتجريبية والكشفية تتجاوز حدود العقل بمدى كبير جدا، مؤكداً أن تحصيل العلم بقسميه “الحصولي” و “الحضوري” يحتاج إلى إعمال جميع أجزاء الوجود البشري، والتفرغ له لضمان الامساك بالعلم والتخصص فيه. وتعرض الدكتور آل محمد للنظرية الكونية العقلية القديمة التي وضعها الاغريق، القائمة على مركزية الأرض ودوران الأفلاك حولها، وفسرت الكون بأنه يتكون من العالم السفلي (الحجارة والماء والهواء والنار) الذي تناله الأعراض ويفنى، والعالم العلوي المكون من الأفلاك (الكرات) والكواكب والنجوم والأثير وهى باقية لا تفنى، حيث استبعدت امكانية تحليق الانسان لتلك الأفلاك لأن ذلك خرق لها والخرق يعرضها للفناء.
وانتقد تلك النظرية بأنها اعتمدت على الأقيسة والبراهين والتصورات العقلية المحدودة، ولم تستخدم الأدوات العلمية ولا التجريبية ورفضت إدخالها، بما فيها علوم الهندسة التي ظلت مرتبطة بعالم المجردات، حتى فصلها الفيلسوف الخواجة الطوسي واعتبرها علما مستقلا، مشيراً إلى أن النظرية الكونية في النصوص الاسلامية دعت لإعمال جميع أدوات العلم الحسية والفكرية لفهم الكون، وأكدت أن جميع ما في الكون مخلوق وله نهاية، وأن مفاد عبارة (أمم أمثالكم) تبين أن السنن التكوينية الأرضية تحكم عالم السماوات والأرض بميزان واحد، ولذا فصعود الانسان للأفلاك والفضاء ممكنة (لا تنفذون إلا بسلطان).
في مقابل النظرية القديمة تحدث المحاضر حول إيجابيات وأخطاء النظرية الكونية العلمية الحديثة مشيراً إلى أنها استطاعت أن تفسر حركة الأجرام الفلكية وتسبر أغوار الكون في شتى الأبعاد اعتمادا على الأدوات العلمية والتجريبية، وأنها أخذت موقفاً رافضاً من الفلسفة وبراهينها، إلاّ أنها وقعت في خطأ الاقتصار على فهم الكون بالأدوات العقلية المحدودة حيث اقتصرت على الإثبات العلمي الحسي، في حين أن العلم أوسع من الحس وهو ما يجده الإنسان بوجدانه في كيانه وهو أبعد من الحس. وأضاف أن هذا الخطأ الكبير في النظرية الحديثة يسبب فوضى فكرية تنشأ من خلالها دعوات الالحاد، منهياً ورقته بالتأكيد على أهمية التوازن بين العقل والعلم لما له من اثر على الرشد الفكري، موضحاً أن نشأة الانسان في بيئة مشوشة تفتقر لمقياس للحق والباطل على الصعيد الكوني أمر بالغ الخطورة مرده الخلط والضبابية في فهم نشأة ومصير الانسان والكون.
بدأت المداخلات بحديث الدكتور محمد العسكر حول إيجاز موضوع شائك كالموازنة بين العقل والعلم، منتقداً واقع العالم العربي في بعده عن مسار السبق العلمي رغم وجود الطاقات العلمية، كما أبدى استغرابه من استمرار الخلاف في تثبيت الهلال مع تقدم علم الفلك. وطرح الأستاذ أحمد الأحمد ارتباط تكوين العقل وأصوله بالأثر الوراثي وتفسير العدالة الالهية في مثل ذلك، من جهته ناقش الدكتور هاشم الصالح في مداخلته عدم أخذ مثبتي الهلال بالعلم الكاشف الذي يقرب من الهلال الكوني واستمرارهم في التمسك بمبدأ الرؤية فقط، وأشكل على نقد المحاضر في اعتماد النظرية الحديثة على العقل بالقول أن ذلك ليس خطأّ ولم تلغ الأقيسة الأخرى ولكن أصحابها يذكرون أنهم حددوا مجال اشتغالهم العلمي فاستطاعوا اكتشاف الكثير من أسرار الكون وتطوير الحياة.
وأشار الأستاذ أحمد الخميس إلى أن العلم نسبي والعقل لا متناه وهما يتكاملان، وأن القول بوجود تعارض بين العقل والعلم كما هو بين العقل والدين هو قول تعسفي، وانتقد الاستاذ زكي البحارنة مصادرة بعض الأوساط العلمية لطرح التساؤلات والجدل حول بعض الاستنتاجات العلمية تعويلاً على أنها لم تصدر من مختصين مشيراً إلى أن انفتاح الجيل المعاصر على مختلف الثقافات تولد لديه أسئلة جادة ينبغي معالجتها علمياً. وتحدث اللواء عبد الله البوشي من محافظة العلا عن مهرجان “طنطورة” الذي تقيمه المحافظة والذي يهتم بتراث الأهالي هناك وأنه جاء احياء لما وجد من آثار تتعلق برصد لحركة الزمن والفصول الأربعة.
وفي نهاية المداخلات، شكر الأستاذ جعفر الشايب المحاضر لاستجابته الدعوة بالمشاركة، وفي تعقيبه على موضوع الندوة أشار إلى أن احتكار العلوم باسم التخصص ووضع الحواجز أمام الشرائح الاجتماعية المختلفة لطرح الاشكالات وفتح باب الحوار يعد أمراً معيقاً تجاه حركة التجديد والتطور العلمي، وأشار إلى مفارقة في الميدان العلمي للباحثين أن الغربيين يضعون نتائجهم بشكل حيادي عن قناعاتهم الفكرية أو الايدلوجية، في حين أنه لا يزال يوجه نتائج البحث العلمي لدينا على نحو أيدلوجي وعظي.
وقد أجاب المحاضر على أسئلة ومداخلات الحضور، وكان ختام اللقاء كلمة ضيف الشرف لهذه الأمسية الأستاذ علوي الخباز، الذي أثنى على ما يتمتع به منتدى الثلاثاء من ميزة استقطاب مختلف التوجهات واهتمامه بتكريم الموهوبين والمنجزين، وتشعر أي متابع بأنه ينتمي لهذا العمل الثقافي بامتياز والتواجد في فعالياته، داعياً إدارة المنتدى للتمسك بشعار “نحن معك من أين كنت، وانت معنا كما أنت”.
التقرير على اليوتيوب:
المحاضرة الكاملة:
كلمة الفنان وليد الحسين:
كلمة الأستاذ محمد المحسن “ملتقى قبس”:
كلمة ضيف الشرف الأستاذ علوي الخباز: