في حضور نخبوي وجماهيري متميز وبأطروحة فريدة تعكس حاجة المجتمع لإشاعة ثقافة النقد ، أقام منتدى الثلاثاء الثقافي أمسيته لهذا الأسبوع ضمن برنامجه للموسم الثقافي الرابع عشر بندوة تحت عنوان”النقد الذاتي في الحالة الدينية” وذلك مساء الثلاثاء 6 ربيع الأول 1435هـ الموافق 7 يناير 2014م . أدار الندوة رئيس لجنة المنتدى الأستاذ زكي البحارنة، حيث ألقى كلمة تحدث فيها عن دور المنتدى في طرح الأفكار الجديدة وأهمية ممارسة النقد في الساحة الفكرية والثقافية ، وذلك إسهاما في تعزيز روح النقد الموضوعي في الساحة الفكرية والثقافية والذي من شأنه مراكمة البحث العلمي في النظر إلى الظواهر الإجتماعية والأنساق الثقافية .
كما عرف مدير الندوة بالمحاضر، السيد محمد رضا السلمان وهو من مواليد مدينة المبرز بالأحساء شرق السعودية عام 1380هـ (1959م) ، وأنهى دراسته الأكاديمية محليا وتوجه لدراسة العلوم الشرعية حيث درس المقدمات ، ثم توجه عام 1402هـ إلى مدينة قم ودرس في حوزتها ، وحضر أبحاث الخارج على يد كبار علمائها ، وهو عالم ومدرس واستاذ في الحوزة العلمية وله مكانته المرموقة بين رجال العلم في الاحساء ، حيث أتته وكالات شرعية مطلقة من عدة مراجع تقليد ، كما يعد من كتاب وشعراء الأحساء البارزين المشهور لهم بالفقاهة وغزارة القريحة ، و له العديد من المؤلفات .
بدأ السيد السلمان أطروحته بالإشارة إلى أن عنوان الندوة منطوٍ على ثقل كبير بقدر ما يحمله من جمالية المعنى ، وإسترسل متحدثا عن الخلط القائم في المفاهيم حول النقد والإنتقاد ، إذ أنهما يدمجان في الوقت الذي يختلف فيه كل مفهوم عن الآخر ، فالنقد هو نقد العيوب ، ونقد الشيء هو البحث في إصلاحه ، أما الإنتقاد فقد يشمل إرادة الهدم . كما بين المحاضر جوانب من تفكيك البنية النقدية موضحا بأن النقد يشمل بعدين هما النقد الأدبي والنقد العلمي ويحتلان حيزا مهماً في الدائرة الدينية . وأوضح أن النقد العلمي متأسس على مناهج واضحة ولا يختلف بإختلاف المجال إن كان أكاديميا أو دينيا ، كما أنه يتطلب توفر مجموعة من المقدمات الصحيحة كي يضمن نتائج سليمة ، مؤكدا أن لعالم الدين آلياته التي تتناسب مع عمله النقدي .
وبين السيد السلملن أن النقد الأدبي مجال مرغوب فيه من قبل الناقد والمنتقد ، وهو خالٍ من أي تبعات أخروية ويشغل حيزا جماليا ، لكنه لا يستند إلى الدليل أو البرهان ، وقوام إرتكازه ينصب على إستغلال الجانب العاطفي وإشباع الشحن النفسي عند المتلقين ، وقد يتحول إلى مساحة من مساحات التوجيه أحيانا . في المقابل بين أن النقد العلمي يعتمد على أسس ومناهج ثابتة وقد ينتج عنه غلظة في القلب ، ومجادلات واسعة ، وله آثار بعيدة وخاصة عندما يرتبط بالمواضيع الدينية ذات البعد الأخروي . وأشار إلى أن الدمج بين صنفي النقد الأدبي والعلمي هو الذي يخلق حالة من المرونة ، والتناول الموضوعي ، ومزج التفكير المنطقي بالعاطفي .
إنتقل المحاضر بعد ذلك إلى واقع النقد في المدارس والحوزات الدينية ، حيث أكد في حديثه أن النقد من الناحية التنظيرية بلغ مبلغ الرشد ، وعمل على تشكيل حالة من حالات الرضا النسبي ، إلا أنه لا يزال محدودا وضعيفا من الناحية الواقعية . وأوضح أن هناك تزاحما في العناوين في هذه الأوساط ، وذلك يؤدي إلى تشتيت التركيز لدى الناقد ، مشيرا إلى أنه على الرغم من الأعداد الهائلة للطلاب داخل الحوزة حيث يصلون إلى حوالي 140 ألف طالب في حوزة قم ، فإن الذين يمارسون النقد قلة بسبب ثقل الموروث وقسوته . وأشار بأنه يصعب التفلت من الموروث لما يجره ذلك من دفع ضرائب عالية على مستوى المكانة والموقعية والشخصية ، ورغم ذلك لم يمتنع البعض ممن لهم مكانة وموقع شاخص من التخلص من غائلة الموروث.
وأكد أن نزع أردية الموروث لا يعني الإنسلاخ عن التدين ، وأن المطلب الأهم في كل ذلك هو تصحيح القراءة وتفعيل النقد وإعادة الجدولة ، حيث أن دروس الفلسفة تعني البحث عن الحقيقة ، وأنه لا حقيقة دون نقد . وللوصول إلى مقاربة أكثر فهما للحالة الدينية داخل الحوزة ، شدد السيد السلمان على أنه يجب تسليط الضوء على الجوانب السلوكية التي يشكلها الدارسون والخريجون من هذه المدارس ، حيث أنها تنعكس على الحالة الدينية بشكل عام . وأوضح أن الجانب السلوكي أمر في غاية الأهمية لدى طلبة العلوم الدينية ، ويتطلب تسليط الضوء عليه لتخليص بعض النفسيات من السلوكيات الخاطئة ، فالبعض كان يرى في أن رجل الدين يمثل الحالة الدينية من خلال تمسكنه فقط .
وأوضح المحاضر أن مدرسة الحديث كانت ولا تزال مساحة مغلقة حتى فترات قريبة ، فالسنة فرع مما أختزن من تأصيلات القرآن الكريم خلال عشرات الآلاف من الروايات التي لا تنال كلها إتفاقا بين المسلمين ، ومدرسة الحديث تشكل المادة الخام التي يتعاطى بها جميع الوسط الديني ويتعاطى معها على أنها مسلمات ، بينما تجد أن هناك خلل كبير ينخر قواها . ونقد السيد السلمان المسار الإسلامي في قوله وفعله ، موضحا أن فيه جاذبية لعموم الناس لكنه يواجه خلطا بين العناوين في الأروقة الدينية ، فتارة يكون موروثا أو مفتعلا من داخل البناء الديني ، وتارة يكون مستوردا بسبب الجهل ، وتارة أخرى يكون مدسوسا من قبل جهات ذات خبرة . وبين أن الحوزات والمساجد والحسينيات والمنتديات بدأت تشكل مساحات خصبة للتوجيه المنفلت لعدم ممارسة النقد داخلها ولعدم ادراك القائمين عليها بأهميته ، وأنهم يمتلكون خصوصية هذه المساحات ، مؤكدا أن ضريبة ذلك ثقيلة ويتحملها أبناء المجتمع .
وأوضح المحاضر أن ممارسة النقد العلمي في المدارس الدينية قد يكون مباشرا ضمن دروس البحث الخارج ، وهي المستويات العليا في الدراسة الدينية ، حيث يربى الطالب على روح التمرد العلمي وعلى نقد المسلمات المفترضة كي يرشد الطالب وينعتق من التبعية المطلقة لقول الأستاذ . وانتقد أيضا عدم الإفصاح عن كل الآراء الفقهية التي يتوصل إليها العالم والتحفظ عليها مع اقتناعه بها ، مستشهدا بالعديد من النماذج والمواقف من قبل علماء ومراجع مختلفين . كما بين أن هناك مجال اخر لممارسة النقد عبر الشروح والتعليقات على كتابات العلماء وهي من وسائل فك المفردات لتمزيق الفكر وتوسيعه لدى الطالب .
وحول النقد الإجتماعي ضمن المعادلات الدينية ، أوضح السيد السلمان أن المجتمع يعج بالكثير من التناقضات ، وقد يكون أحد أسبابها هو دور رجل الدين في المجتمعات المحافظة الذي يسعى إلى تثبيت موقعيته وتكريس هيمنته الإجتماعية ، وفرضها بالقوة ، موضحا أن الدين ببساطته يطلب من الإنسان إلتزامات دنيا في أفعاله وأقواله ، بينما تفرض على المجتمع الكثير من الضوابط والمحددات التي تشكل أعباءا على الناس .
وانتقد المحاضر أيضا غياب علماء الدين عن معرفة حاجات المجتمع وقضاياه ، وبالتالي عدم قدرتهم على تحمل مسئوليتهم بصورة صحيحة وتضييع طاقات المجتمع في أمور وقضايا هامشية وجزئية بعيدة عن أولوياته ، مؤكدا على ضرورة ممارسة النقد في مثل هذه الأوساط بكل جرأة وصراحة ، مشيرا إلى أن رجال الدين لا يستطيعون نقل تجاربهم للمجتمع لأنهم لم يعدوا أنفسهم للقيام بهذا الدور ، فالقليل منهم تخصص في الجانب النقدي كعلم . وأوضح أن الوسط العلمي الديني يتكأ على الجانب العلمي المحصل من خلال القراءات وليس التخصص فهنالك ثغرات كبيرة ، وأن الإعتراف بها يقود للتصحيح ويؤدي للرقي .
وجاءت مداخلات الحضور جادة ومتنوعة ، فطرح الأستاذ طالب المطاوعة مداخلة حول سيكولوجية الإجتهاد وممارسة النقد في دروس المستويات العليا ، مطالبا بنقل عملية ممارسة النقد من داخل المدارس الدينية للمجتمع . وأشار الأستاذ مسلم البوعلي إلى حالة التطرف التي تسود ضد من يقومون بعملية ممارسة النقد في الوسط الديني ويتعرضون للتسقيط والتشهير مستشهدا بالعديد من المراجع وعلماء الدين الذين تم تكفيرهم لهذا السبب . وتناول الأستاذ أحمد الخميس مشكلة الإيغال في ممارسة النقد بإعتبارها منطقة حرجة من قبل العقل الجمعي الشيعي الذي لا يتقبل النقد ، متسائلا عن إمكانية التوازن بين ممارسة النقد والحفاظ على إستقرار المجتمع . وحمل الأستاذ حسين الحاجي علماء الدين مسئولية كبيرة من خلال التجييش في طرح الأفكار وتسذيج العموم وتأزيم الوضع الإجتماعي .
وتساءل الأستاذ عمار العبد الله عن وضع الحوزة العلمية في الأحساء ، وما قدمته للمجتمع ، وعن كون المنبر الحسيني يعج بالخرافات وذكر الأحلام والمنامات بصورة غير علمية أو عقلانية . وانتقد الأستاذ زكي أبو السعود إضفاء حالة القدسية على الخطباء بكونهم يمثلون الرسول (ص) والأئمة (ع) مما يعني أنهم بعيدون عن النقد . وطالب بعض المتداخلين منهم غسان الناصر وعلى الحمد ونسيمة السادة أن يكون النقد من خارج الوسط الديني ومن قبل المستفيدين وأصحاب المنفعة النهائية كالمثقفين وعموم الناس في المجتمع ، فالمتدينون ليسوا قادرين على نقد ذواتهم .
وطالب الأستاذ علي البحراني من المحاضر الحديث بوضوح حول الفتوى التي صدرت ضده من أحد المراجع ، وحول بحثه العلمي حول الغناء والذي لم ينشره . وأشارت الأستاذة هدى القصاب إلى أن الندوة تبعث على التفاؤل بينما المنبر يعمل على تغييب العقل وتكريس الخرافات . وانتقد الأستاذ وليد سليس فكرة كتب الضلال المنتشرة في الأوساط الدينية ، موضحا أن رجل الدين عصي على النقد حتى لو كان يعمل في السياسة . وتناول راعي المنتدى الأستاذ جعفر الشايب إشكالية توسيع دائرة المقدس في مختلف المجالات الحياتية التي اصبحت تقيد حركة الإبداع والتطوير في المجتمع ، وكذلك حصر الناس بين توجهين هما التشدد الديني أو التمرد والإنفلات من الحالة الدينية وخاصة في الوسط الشبابي بسبب الأفكار المنغلقة والمؤسسات الدينية والقائمين عليها .
وتناول السيد السلمان في رده على أسئلة الحضور بتعليقات عديدة لخصها في أن الكثير من العلماء المجددين تعرضوا لإشكالات واتهامات لغرض إسقاطهم وإضعاف دورهم ، وأن ممارسة دور الإصلاح تتطلب الإخلاص لله والرغبة الجادة في إصلاح الخلل لمواجهة الواقع المر وكذلك تظافر الجهود لمواجهة التكفير والتسقيط . وبين أن الخرافات والمنامات تستهوي الخرافيين والنائمين ، والجمهور الخرافي هو مايريد ذلك ويتطلب إيقاظ الناس وتوعيتهم عبر صدمات متتالية ، وأن المنبر يقود أحيانا إلى التأزيم المختلق لأنه يصب لصالح جماعة بعينها تتموضع في مواضع معينة وقد يكون مكشوفا أو مبطنا ، وأنه في محرم لا ينتقي الناس أفضل الخطباء وإتما يختارون البضاعة الرئجة كالصوت والأداء والتمثيل المختلق .
واستشهد بأن هناك مواضيع تطرح على أنها محورية بينما هي تدل على غياب الأمة وفراغها وعدم إهتمامها بالوقت ودورها الحقيقيي . وذكر بأن الفتاوى التي صدرت ضده لا يمكنها أن تعالج الوضع ، وإنما ينبغي أن تكون المعلاجة بصورة علمية وموضوعية .
المحاضرة الكاملة: