في لفيف نخبوي استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف الأستاذ عيد الناصر مساء الثلاثاء 6/ ربيع الأول/1430هـ، الموافق 3/ مارس/2009م متحدثا عن التحولات الثقافية في فترة النفط من خلال روايته “هسهسة التراب”، والناصر من مواليد مدينة سيهات للعام 1958م، وهو كاتب وناقد، يرأس حاليا جمعية الثقافة والفنون في الدمام. صدر له مؤخرا كتاب نقدي للعديد من الروايات والقصص المحلية بعنوان “أقنعة الخوف”، وفيه طرح إشكالات البنية الثقافية والاجتماعية السعودية.
وقد أدار الأستاذ جعفر البحراني الندوة مرحبا بالضيف، معرفا بسيرته الذاتية، ثم قدم استعراضا سريعا لفكرة الرواية التي جزم بمراهنة الكاتب فيها على ذاكرة المكان والمجتمع، أنعشها في رحلة عائلية يقوم بها بطل الرواية برفقة أسرته الصغيرة لمنطقة رأس تنورة، تنطلق خلالها رحلة أخرى زمكانيا يسافر فيها البطل إلى أزمنة سحيقة تدثرتها المنطقة في ظل العمالقة والفينيقيين والقرامطة والعباسيين، لينتقل بعد ذلك للحديث عن قبيلتي الهواجر وبني خالد، مستعرضا الخلافات التي دبت بينهما حتى دفعت الهواجر للنزوح نحو النابية، وليستقر أخيرا على واقع سيهات، مقدما في ذلك فلاشات نقدية لماض انتهى لواقع معاش بكل عناصره التي تحركه، رجالا، ومجتمعا، و كان لدولة صغيرة فيه تسمى “أرامكو” حضورا بينا.
وفتح البحراني للضيف مجال الحديث بتوجيه سؤال له حول عدم تركيز الرواية على المفارقة الإنسانية بين المجتمع الأميركي الثري، المتعلم، المتحرر في شركة الزيت، وبين المجتمع المحلي الفقير، الجاهل، المحافظ، بكل ما في ذلك من علاقات مهنية وإنسانية عاصرت تحولات ثقافية مهمة.
الأستاذ عيد الناصر بدأ حديثه بوجود ” ظروف معينة تفرضها – دائما – تراكمات تحكم كتابة النص “، مشيرا بذلك إلى أن توظيف صورة ” شركة أرامكو ” في الرواية كان مجرد إشارة طبيعية لوضع الإنسان المحلي العامل فيها، وأكد على أن التشويق والإمتاع عنصران متلازمان وظفهما على قاعدة مقولة بطل الرواية لأطفاله “إني أرى مالا ترون” أو “إني أسمع مالا تسمعون”، يستحضر في ذاكرته رائحة المكان ومصارعة الوقت وحديث الأرض له بصوت يستحيل على المتلقي – الذي ما عاصره –
استشعاره.
بروز اللهجة المحلية القديمة في رواية مصبوغة بالتراث جاء موازيا لمستوى الثقافة الحاضرة مثل له مدير الندوة في ألفاظ أجنبية يتداولها أحد أطفال البطل؛ متسائلا عن الهدف الذي أراد الكاتب تحقيقه من خلال ذلك. وقد أشار الكاتب إلى العفوية والواقعية التي تأثرت اللغة بها في ظل تحول ثقافي واجتماعي فرضه اتساع مدى العلاقات الإنسانية والمعرفية، واعترف بتوظيفه أسباب نفسية واجتماعية لدعم الحس النقدي في الرواية.
وأشار الأستاذ عيد إلى هدفه لتقديم روايته بصورة تجمع الشعبية والنخبوية في آن واحد، من خلال طرح إحالات وتداعيات محلية تحاكي قصص عالمية، وتراعي الذائقة في شعرية اللغة بجمالياتها وإشاراتها في ظل وعي المتلقي المطلوب في ذلك. هاجس النقد شرحه مدير الندوة في قلم الضيف، مشيرا لكثرة تعاطيه في الرواية كتابات رائد الرواية الحديثة “جيمز جويس” بطريقة نقدية متسائلا إن كان الناصر قد أراد نقد نفسه بنفسه، وأوضح الناصر إلى ثمة نتاجات أدبية قادرة على إحداث صدمة تغير مسار الأدب رغم قلة المطلعين عليها، وهو ما وجده واضحا في رواية عوليس “Ulysses” لجميز جويس التي تمنى قراءتها قبل شروعه في كتابة روايته، لشبهها في كثير من سمات فكرتها بروايته. غياب بعض مدن وقرى القطيف في الرواية مقابل ذكر مدن داخلها وخارجها كان إثارة مدير الندوة الأخيرة التي وجهها للكاتب الضيف متسائلا عن سبب ذلك، الأمر الذي أكد فيه الضيف التعمد؛ معاتبا قصور ثقافته عن ما غاب في الرواية من قرى.
في مداخلات الحضور أشار الأستاذ محمد عيسى إلى استدعاء الحديث عن رواية ما لمقارنة بأنساق روائية أخرى، ليذكر بذلك العديد من الروايات المحلية التي استحضر كاتبوها رائحة المكان، كما في “العدامة” لتركي الحمد، و”أبو شلاخ البرمائي” للدكتور غازي القصيبي، وتساءل عن تركيز الناصر على تشكلات المكان الجزئية بعيدا عن المفصولات الكبرى التي حدثت في المنطقة، وكان ممكنا استعراضها بالتوتر المطلوب عبر إطالة الرواية، كما تساءل عن دور أدباء المنطقة من الجيل السابق في كتابة سيرة المكان في ظل تلاشي الخوف الاجتماعي والسياسي من الكشف عما “تحت الطاولة”.
الأستاذ عيد أشار لتحدثه عن المكان في صور متوترة كثيرة ومتنوعة، مستشهدا بمشاهد رواية الجدة لانتقال العمال لمناطق عملهم، وبمعاناتهم في مخيمات شركة أرامكو، والتي رصدت طبيعة العلاقة المؤطرة بصدام الظلم العمالي ضد العربي لصالح الأجنبي. وحول كتابة سيرة المكان أشار لمحاولة الكاتب عبد الرحمن منيف؛ مبديا عدم ارتياحه لما تمت كتابه، لعدم تكامل الصورة لدى منيف عن المنطقة.
وتساءل الأستاذ ماهر سلمان عن اعتبار “هسهسة التراب” حجر الزاوية في تغيير الصورة النمطية لتشكل المكان في الروايات المحلية التي ربطته مؤخرا بعنصر الجنس الموظف سلبا كمدخل مثير للرواية. وقد أشار الناصر إلى عدم نشوء الكتابة من فراغ، بل من واقع معاش بصور مختلفة، مشيرا بذلك إلى هاجس الجنس المأساوي عند المرأة ورغبتها في التمرد عليه لتعريته اجتماعيا، وكأنها ترغب في فضح قيم طالما غنى المجتمع لها وقهرها بها.
وتساءل الأستاذ زكي البحارنة عن مدى التحول الثقافي والاجتماعي الذي أحدثه اكتشاف النفط في القطيف، وعن كيفية قراءة العلاقات الاجتماعية فيها بعد هذا التحول من قبل جيل لم يعايش فترة الانتقال وما قبلها. وفي إجابته، أشار الناصر إلى رصد الرواية للحظة التي كان الإنسان المحلي فيها يعمل مقابل حبات تمر لا تكاد تكفي قوت يومه، في مقابل اللحظة التي أحدثها النفط في مجريات الحياة بدءً من التعليم، ومرورا بالاقتصاد، مع ما تضمنه ذلك من صدامات شهدتها المنطقة بعد أن تحولت مركزا للحركات السياسية فرضته طبيعة التغير. التحولات التي أحدثها النفط شهدت انتكاسة وصف الناصر بعضها بالخطرة؛ لما أحدثته من انفصام بين واقع القرن الواحد والعشرين وقيم تجاوز عمرها 1400 سنة، داعيا إلى ضرورة العودة إلى الماضي والبحث عما يوجد في الحاضر قيما إنسانية واجتماعية تنسجم أصولها مع متطلبات الحياة بمختلف تفاصيلها.
المحاضرة الكاملة: