ركز الدكتور يوسف مكي على موقعية المشروع الثقافي العربي والتحديات التي تواجهه في ظل التحولات العلمية الكونية في محاضرته التي نظمها منتدى الثلاثاء الثقافي ضمن برنامج موسمه الثقافي الثامن عشر تحت عنوان “المشروع الثقافي العربي والتحولات العلمية الكونية” وذلك مساء الثلاثاء 21 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 9 يناير 2018م.
وضمن الفعاليات المصاحبة للندوة تم عرض فلم قصير عن الشاعر والأديب علي الدميني تناول شطرا من حياته الأسرية والأدبية والسياسية، بعد أن تم عرضه في جمعية الثقافة والفنون بمناسبة تكريمه في مهرجان بيت الشعر في دورته الثالثة. كما استعرض الفنان حسن آل عبيد تجربته الفنية من خلال أعماله المعروضة في المنتدى في مجال الفن التشكيلي والخط العربي، متحدثا عن المعارض التي شارك فيها والجوائز التي حققها. كما تحدثت الإعلامية ماريان الصالح عن مبادرتها القادمة وهي “ماراثون الألوان الخيري” الذي يشمل العديد من الفعاليات والأنشطة الترفيهية التي تخدم مختلف فئات المجتمع كمساهمة خيرية لدعم الأعمال الإجتماعية.
أدار الندوة الأستاذ محمد الشافعي مقدما للمحاضره بالحديث عن الأبعاد المختلفة للتحولات العلمية القائمة وانعكاساتها الإجتماعية والثقافية على المجتمعات المختلفة، مؤكدا على ضرورة التعاطي الواعي والمسئول مع هذه التحولات. بدأ المحاضر حديثه بأن المعرفة البشرية أمست عظيمة جدا وتسير بخطى حثيثة في كل المجالات لا يمكن للذهن البشري اللحاق بها، وانعكس ذلك على تغيرات جوهرية ومكثفة في طريقة الحياة لعموم الناس، وتبدلت ثقافات وتقاليد استعيض عنها بأشكال جديدة من السلوك وطرق العيش. واستعرض الدكتور يوسف مكي أشكالا متعددة من التحولات العلمية التي أثرت على المجتمعات الإنسانية خلال العقود القليلة الماضية، وخلقت مجموعة من التحديات والإشكالات بين العلم والفلسفة وتأثيرها على أرض الواقع على البيئات الإجتماعية والهويات والثقافات.
وأضاف المحاضر أن الهوية هي نتاج تاريخي وجغرافي لا تنطوي على عناصر داخلية فقط بل على إسهامات إنسانية محلية وعالمية وتفاعل مع حضارات وثقافات أمم وشعوب أخرى، فالهويات – كما يوضحها الدكتور عماد عبد الغني – لا تتشكل من العدم وأنها حصيلة ديالتيك وسيرورة اجتماعية وهي تعبر عن شكل من أشكال التجانس والإنسجام. وأوضح الدكتور مكي أن التطورات العلمية أحدثت اختراقا للحدود الثقافية، إلا أنه نتج عن ذلك تلاقح إنساني ثقافي غير متوازن لصالح المركز وهو الغرب مما أدى لرواج الثقافة ذات الطابع الغربي وتراجع إمكانية التثاقف بين مختلف الثقافات المعاصرة.وينقل المحاضر تمييزا يشير إليه الفيلسوف الفرنسي ادجار ميلان بين الثقافة الإنسانوية والثقافة العلمية حيث يشير إلى الإنفصام الحاصلي بين الروح والقلب وبين عالم العقل والتقنية مما يخلق نزاعا مأزوما وصدوعا في الوعي الجمعي، مما يعني أن المنظومات الفكرية تكون مغلقة ومفتوحة في آن معا.
وأوضح ان هذا الإنفصام يكون أكثر في المجتمعات التي لم تدخل بقوة في الثورات العلمية والتي هي في الواقع مستهلكة لها، فالقوي علميا يسهم بفعالية في تذويب العناصر الت يتصنع الثقافات المحلية بالمجتمعات الإنسانية بما يحقق غلبة المركز على الأطراف. وأضاف أن تكنولوجيا الإخضاع وصناعة العقول وهندسة الإدراك تلعب أدوارا هامة في كسر الممانعة الثقافية للبلدان النامية، كما أن الغرب لا يتردد في استخدام تكنولوجيا الاتصالات المتطورة لبعث الهويات ماقبل التاريخية متى ما وجد ذلك يخدم استراتيجياته في تحقيق الهيمنة.وتحدث الدكتور يوسف مكي عن أثر التطورات العلمية على المجتمعات العربية، مشيرا إلى أن تغيرات كبيرة وواسعة حدثت في أنماط الحياة والسلوك وطرق التعامل الإجتماعي، فضعفت وشائج التواصل الإنساني وتراجعت قيم التعاضد والتضامن والتكاتف. وعدد المحاضر أشكالات من التغيرات في أنماط السلوك الإجتماعي بعد انتشار ظاهرة الإنترنت حيث تراجعت مجمل الحالة الثقافية والفنية ودور الكتاب وقراؤه حيث أصبحت المجتمعات العربية من أقل شعوب العالم إقبالا على الكتاب.
انتقل المحاضر بعد ذلك للحديث عن دور المثقف العربي في ظل هذه التحولات الكبرى التي ساهمت في تحرير الفرد من قيود حجمه وزمانه ومكانه وجنسه، وخلقت حالة انفصام شديدة وخطيرة بين ماضينا وحاضرنا. وأوضح أنه لا بد من ضبط إيقاع حركة الولوج في الزمن الكوني الجديد باتجاهين متوازيين هما التراكم الثقافي والعلمي والمعلوماتي المطلوب والثاني التماهي الواعي مع الحراك الإيجابي الدائر من حولنا في هذا الكون. وبين أن ذلك يتطلب منا تحديد الأهداف والاستراتيجيات والأدوات التي ينبغي الأخذ بها، والتركيز على أهمية الحوار والتفاعل مع مختلف التيارات الإنسانية بكل أطيافها وتوجهاتها. وطالب الدكتور مكي بجعل المؤسسات الإعلامية من فضائيات وصحف ومجلات ومواقع الكترونية وعنكبوتية في خدمة مشروع النهضة الجديد، وأن يكون الخطاب فيها منفتحا وتنويريا ورافضا لدعاوى الخصوصيات الثقافية والدينية التي تستخدم كذريعة لقمع الحريات ومصادرة الرأي الآخر.
وعبر عن مفهومه للإندماج في العصر الكوني من خلال بعد إيجابي يؤكد على المساهمة في مجالات الثقافة والفنون وإصلاح الأنظمة باتجاه تحقيق مزيد من الإحترام لحقوق الإنسان، ومن خلال اندماج سلبي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الرضوخ للتبعية والتهميش وإلغاء الذات أمام قوى الهيمنة العالمية الجديدة.وفي تشخيصه للأزمات العالمية القائمة، بين الدكتور مكي أن مشكلة العالم الثالث تكمن في وقوعه ضمن معادلة المركز المهيمن الذي ينهب ويستحوذ على مقدرات الأطراف، وأن التعددية القطبية تفتح الخيارات أمام الأطراف للحركة والفاعلية، فالحرب الباردة أعطت مجالا لحركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمركيا اللاتينية بأن تتشكل ضمن منظومات جديدة وممارسة حقهاا في الإختيار.
وطالب بضرورة تفعيل الحراك والوعي الإنساني لاكتشاف الذات مجددا وإعادة صياغة مشاريع الأمة على ضوء المتغيرات المستجدة. وأنهى الدكتور يوسف مكي ورقته بالحديث حول دور الثقافة العربية في هذا الزمن الكوني، حيث أكد أننا من أكثر الشعوب مصلحة في تحقيق التواصل والإندماج لأن ذلك سيكون عاملا مساعدا في التعجيل بقطع المسافات الطويلة التي ينبغي علينا تجاوزها الآن. وأضاف أن الجدلية التاريخية تفرض علينا الدخول في رحاب عالمي إنساني دون أن يعني ذلك تنازلا أو ارتماء أعمى في أعتاب النظام العالمي الجديد أو تحت أقدام جياده التي تفننت في هزيمتنا وسحق ارادتنا.
بدأت المداخلات بأسئلة من مدير الندوة الأستاذ محمد الشافعي حول الحداثة وحملها لاحتمالات مسارات متعددة وعن مدى فاعلية وقدرة الأطراف على توسيع دورها أم أنها محصور في تأثير المراكز فقط، ونبّه الأستاذ أحمد الخميس إلى الخلط الحاصل بين مفهومي الحداثة والعولمة المتغولة متسائلا عن المشروع البديل لمواجهتها. وانتقد الأستاذ حسن ال جميعان خطاب المحاضر الذي اعتبره مليئا بالهواجس وبرتكات الهزائم والانكسارات متسائلا عن المخرج من هذه الأزمة والبحث عن حلول لا تحمل داخلها الانهزام، أما الأستاذ جعفر الكشي فطرح اشكالية انتشار المدارس العالمية التي تعتمد على اللغة الانجليزية في تدريس طلابها مما يؤثر سلبا على الهوية.
وتناول الأستاذ محمد جعفر المسكين دور الشعر والحكمة في الفلسفة وتعزيز مكانتها الحضارية، وطرح الأستاذ أمين الصفار تساؤلات عن دور شركات النفط في التحول والتغيير في العالم وليست الدول فقط. ووجه الأستاذ علي الحرز ملاحظته حول موقعية الشعر والسرد وعلاقتهما بالهزيمة والانتصار كأنماط تعبيرية في الوسط العربي، وطرح الأستاذ زكريا المدن اشكالية تراجع قيم المجتمع القديم التي تنتج مثقفا مستقلا والتنازع في ذلك بين مدرستي الإجتماعيين والثقافيين.
وتساءل الأستاذ عبد الله الدحيلان عن تأثير التدخل الروسي في سوريا على معادلة عودة الثنائية القطبية العالمية، أما الدكتور عبد العزيز الحميدي فأكد على أهمية تنمية مهارات التفكير في التعليم بالنسبة للأجيال القادمة. وأكد الأستاذ زكي ابو السعود على ضرورة بلورة الهوية الخاصة دون أن يلازمها انغلاق داخلي أو وضع عراقيل للوصول والتعاطي مع المعرفة والثقافة العالمية، وأنهى الأستاذ يوسف شغري المداخلات بنظرته أن واقع اتجاه البشرية لا يقود إلى التفاؤل بل إلى المزيد من انحدار القيم ويتطلب ذلك العمل على توطين المعرفة والتأكيد على دور الشعوب التي قد تفاجأ الجميع.
التقرير على اليوتيوب:
المحاضرة الكاملة:
كلمة الفنان حسن آل عبيد:
كلمة الأستاذة ميريان الصالح: