ضمن دوره في الاهتمام بالنماذج الوطنية الناجحة واتاحة المجال لتدارس هذه التجارب بالحوار والنقاش، أقام منتدى الثلاثاء الثقافي أمسية ثقافية ثرية حضرها العديد من النخب والمهتمين تحت عنوان “دروس في النجاح .. ذكريات ومبادئ وتجارب من الحياة” استضاف فيها معالي الأستاذ ناصر بن محمد العجمي نائب الرئيس التنفيذي الأسبق لشركة أرامكو السعودية وذلك مساء الثلاثاء 16 ذو الحجة 1436هـ الموافق 29 سبتمبر 2015م.
وسبقت الندوة فعاليات مصاحبة، حيث تحدثت هدى الشايب حول مبادرتها في المشروع التطوعي “غصون الأمل” الذي يهتم بجمع بفساتين الزواج المتبرع بها لبيعها لصالح معالجة مشروع بيوت الصفيح أو منحها للأسر المحتاجة تحت اشراف الجمعيات الخيرية بالمنطقة، وقد أقيم مؤخرا المهرجان الأول لهذا المشروع الذي وجد اقبالاً كبيرا حصيلته 4000 فستان. وتحدثت الفنانة فاطمة المرهون التي اقامت معرضا فنيا في المنتدى عن تجربتها الفنية في التصوير مستعرضة اعمالها ومشاركاتها في أنشطة وملتقيات فنية محلية ودولية، وهي تعمل أخصائية علاج إشعاعي لمرضى الأورام في مستشفى أرامكو بالظهران، وخريجة جامعة ليفربول، حصلت على دبلومات تصوير من كليات متخصصة منها نيويورك وجامعة ماليزيا. والمرهون عضو في جمعيات فنية متخصصة وحصلت على العديد من الجوائز المحلية والدولية .
ثم القى عضو اللجنة المنظمة للمنتدى الأستاذ زكي البحارنة كلمة منتدى الثلاثاء بهذه المناسبة حيث شكر الضيف على استجابته للدعوة، وأشار إلى اهتمام المنتدى بتدارس التجارب الوطنية المشرقة مع أصحابها كمساهمة من المنتدى في الحراك الثقافي والاجتماعي الذي يوجه شريحة الشباب بشكل خاص لاقتباس المنهج الذي أدت الى النجاح وساهمت في بناء وتقدم البلد، داعيا الى نشر هذه التجارب ووضعها ضمن برامج التدريس وخطب الجوامع.
بعد ذلك بدأت الندوة التي أدارها الأستاذ عادل المتروك مؤكدا على أهمية السير الذاتية الغنية بالتجارب حيث تعتبر زاد الشعوب في حركة التقدم والنماء، ومعرفا بالأستاذ ناصر العجمي بأنه من مواليد موقع “الفروق” على مقربة من غرب حقل الغوار النفطي بالأحساء وذلك عام 1935م، والتحق بأرامكو كمتدرب عام 1950م، ابتعثته الشركة للدراسة في لبنان ، ثم حصل على البكالوريوس في العلوم الادارية من الولايات المتحدة واستمر عمله بالشركة أكثر من اثنين وأربعين عاما شغل خلالها مناصب كثيرة كان آخرها نائب الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو حتى تقاعده عام 1993م، ترأس بعدها المؤسسة العامة للخطوط الحديدية في الفترة 1416 حتى 1420هـ ، وعين بمجلس الشورى بين عامي 1426-1430هـ. صدر له كتاب بعنوان “إرث جيل” باللغة الإنجليزية وكتابين باللغة العربية “من وحي سيرتي الذاتية – الجادة والمطية” و “استراتيجية التطور والتوسع”، وله مجموعة من التقارير المتخصصة في صناعة النقل والنفط والتخطيط الاستراتيجي، ومجموعة من المقالات نشرت في الصحف المحلية.
في البداية تحدث الأستاذ العجمي حول دور الانسان في الحياة من منظور التوجيه الرباني ثم من واقع التجارب البشرية مؤكدا على التمعن في الخلفية التاريخية لأسباب التحولات في المجتمع البشري، رابطا تلك المقدمة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة العربية قبل النفط، وما تلاها من تأثير على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. واعتبر أن توحيد الجزيرة العربية على يد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله هو أهم أحداث تلك الحقبة التي أنهت التناحر القبلي والشتات السياسي والاجتماعي، ويليها تأسيس شركة الزيت العربية الأمريكية “أرامكو” بعد اكتشاف النفط الذي شكل بدأ الانفصام التدريجي لوتيرة الحياة في الجزيرة العربية حيث نقلت الحياة الاقتصادية للناس من الاشتغال بكافة اشكال المهن من الغوص والفلاحة والرعي إلى العمل الوظيفي في أرامكو، وفيها بدأ الانصهار الاجتماعي الفعلي بين أبناء مناطق البلاد.
بعد ذلك توجه بالحديث عن تجربته الذاتية كمصداق للتحول الذي أحدثه اكتشاف النفط حيث الانتقال من البادية التي كانت من بساطتها أن الطفل في الصحراء عند بلوغه التاسعة من العمر يكون قد كسب خبرة الكبار لكل ما تتطلبه المعيشة والحياة ولا يبقى فارق بينه وبين الكبار إلاً القوة البدنية. وقال عن سيرته الذاتية – التي طبعها تحت عنوان “الجادة والمطية” – بانها سيرة ذاتية لمن نشأ في تلك البيئة والحقبة الزمنية ولكنها أيضا قصة دراماتيكية تصف التحول الشامل الذي شهدته المملكة على يد جيل امتطى الصعاب في سبيل العلم والمعرفة وجابه التحديات واحترام المهنة وتذوق النجاح بجهوده الذاتية. ووصفه بأنه جيل لم يرى تباينا بين طموحاته الشخصية وخدمة الوطن، مؤكدا بأن كمال الشخصية يتطلب الصدق مع الذات والاخلاص في العمل، مؤكدا في هذا السياق بأن جيله هو أول جيل بعد توحيد المملكة يكسر الحواجز القبلية والطائفية والمناطقية والاجتماعية حينما جاؤوا من كل حدب وصوب من انحاء المملكة للعمل سوياً لإرساء حجر الأساس لمجتمع جديد، فكان ذلك تحولا اجتماعيا بدأت فيه المصالح العليا والعامة للمجتمع تحل محل ثقافة التشرذم والتناحر.
من جهة أخرى أشار العجمي الى ثلاثة خيارات قد يتعرض لها الانسان في مراحل حياته راضيا أو مكرها، فإما أن يطوع الحياة ويصنع حياة مبتكرة، أو يقبل ويتكيف بما تقدمه له من حلوها ومرها، وإما الهروب ويعيش حياة التقوقع والانطواء، ولكن العبرة تتجلى في تعامله مع هذه الخيارات والمواقف. ولفت إلى القول بأن الانسان خلق بقدرات خلاقة والله هيأ له سبل مستقيمة للوصول اليها غير أن الانسان في الغالب تواق للبحث عنها بأساليب قد لا تكون مشروعة تتسبب في شقائه، قائلا بأن تجاربي في الحياة علمتني بأن كبح الانسان لانحرافات الأنا في ذاته والتصالح مع النفس تجعل منه انسانا لا أعداء له.
ثم طرح تساؤلا حول قدرة الانسان على تحديد وثبات مذهبه في الحياة رغم ما يتعرض له من تغيرات طبيعية بسبب التقلبات التي تحصل أثناء مراحل تطور الحياة؟ فأجاب أنه من خلال تأمله الشخصي ومن خلال تجاربه في الحياة بأن في الايمان طمأنينة وأن الثقة بالنفس تجتذب الهمم العالية وفي الاخلاص والنزاهة نجاح العمل، وأنه يوجه الأنظار الى بناء العلاقات الانسانية الحميدة والالتزام بالقيم والهمة العالية وبالأساليب القيادية والادارية الفاعلة فإن ذلك مما ساعده على ثبات رؤيته ومذهبه في الحياة.
وتعرض معالي الأستاذ العجمي الى عدة محطات في حياته العملية صاغت شخصيته وأسست لمنهجه في الحياة والإدارة، فعند ابتعاثة للدراسة في لبنان تعرف على مختلف الأحزاب القومية واليسارية وغيرها فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، قائلاً أنه استفاد من ثقافتهم ولكنه لم ينتم لأي منها لا سيما حينما تبين له شدة الصراع الداخلي بينها. واختار عند ابتعاثه من قبل الشركة للحصول على البكالوريوس في أمريكا مدينة لا يوجد بها أي طالب سعودي حيث كان يهدف الى التعرف على تفاصيل حياة المجتمع الأمريكي وعدم الاكتفاء بالدراسة فقط. وتجول في انحاء تلك الولاية ودخل كنائسهم وأماكن العبادة لليهود وغيرهم وكذلك المراكز المختلفة، متحدثا عن مجموعة من المواقف التي أثرت في شخصيته وكشفت له عن تجاوز المجتمع الأمريكي للخطاب الديني التحريضي.
وحول تجربته في رئاسة سكة الحديد، ذكر أن الخطوط الحديدية عند تسلمه المسئولية كانت في أسوأ أوضاعها المالية إذ أتت بعد حرب تحرير الكويت، وقد وضع خطة استراتيجية للتطوير ولكنه لم يتمكن من تنفيذها لعدة أسباب من أبرزها اصطدامها مع قرارات وزارة النقل ووجود حالة من البيروقراطية المعقدة، على أثر ذلك ترك رئاسة المؤسسة.أما عن عضويته بمجلس الشورى فاستمرت دورة واحدة فقط، ولم يرغب بتجديد عضويته بسبب تقديره بأن هناك هوة كبيرة بين قدرات الأعضاء الموجودة تحت قبة المجلس والمهام الموكلة لهم.
بعد ذلك اجاب على أسئلة ومداخلات الحضور مبتدئا بالإجابة على سؤال الأستاذ صالح آل عمير حول رضاه عن ادارات أرامكو فقد امتدح الطريقة الأمريكية في الادارة قائلا بأنها أعطت مجالا واسعا لتدريب الشباب السعودي، وكانت الشركة حينها بعيدة عن الضغوط الاجتماعية، فكانت تلتزم بمعايير العدالة والكفاءة والأهلية. وأشار إلى أن الادارة إذا أصبحت غير محمية من تدخل وتأثير جهات متعددة لا تستطيع السير وفق معايير ثابتة وواضحة، فتتأثر بثغرات وأمراض البيئة التي تعمل بها. وفي معرض اجابته على مداخلة الأستاذ عدنان السادة حول ما يمكن أن يقدمه اليوم لو عاد به الزمن لأرامكو، قال المحاضر أنه لا يستطيع ابداء رأيا محددا الآن للفاصل الزمني بينه وبين أرامكو بعد التقاعد، ولكنه أشار إلى أنه كانت لديه رؤية حول الاستثمارات الخارجية للشركة وأنها يجب أن تتوجه للإستثمار في الداخل بشكل أكبر ولا زال يؤمن بهذا الرأي.
وحول مداخلة الأستاذ أمين الصفار حول تجربته الادارية في القطاع الحكومي، أوضح أن أغلب الأنظمة مبنية على قرارات رسمية والتغيير يتطلب أيضا قرار آخر من نفس الجهة، وبالتالي يقع الاداري في القطاع الحكومي في فجوة بين المهام والصلاحيات، وذلك سبب تضخم البيروقراطية في القطاع العام. وأجاب على مداخلة الأستاذ عيسى العيد حول جهوده في تطوير سكة الحديد بانه عين فيها بعد حرب الخليج الثانية فعمل على خطة استراتيجية تطويرية لكنها اصطدمت بالعجز المالي ومعوقات أخرى مع وزارة النقل، مما اضطره لترك المؤسسة. أما حول محجوزات شركة أرامكو فأشار الى انها تهدف في الأساس لحماية الثروة تحت الأرض وليس الاحتفاظ بالأرض لذا يجب أن يكون هناك توازن بين الأمرين.
وفي مداخلة للدكتور جميل الجشي أشاد بشخصية وخبرات الأستاذ العجمي داعياً الجيل الشاب باقتناء وقراءة سيرته ونتاجه الفكري. وتساءلت الاستاذة رابعة المرهون عن تقييمه لجيله وهل هو جيل المحظوظين؟ فأجاب العجمي بأنه من جيل صغار السن كبار العزائم. وتحدث الأستاذ مصطفى الخباز حول نصائح موجهة لموظفي الشركة اليوم، فجاء رد المحاضر قائلا أن على الموظف أن يتقن فيما هو فيه، ولا ينصح بتحول التقني الى اداري لأجل الترقية وأن الاتقان مع مبدأ التصالح مع الذات يجعل الموظف انساناً لا أعداء له. وفي جوابه على سؤال الإعلامي فائق الهاني قال بأن النفط نعمة وليس نقمة يجب أن نشكر الله عليها مؤكدا بأن المشكلة في ادارة هذه النعمة وحسن استثمارها. وعبر الأستاذ علي سويد عن أهمية حديث العجمي في التسامح والتعايش ونشره على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
وحول سؤال الأستاذ عادل المتروك عن رؤيته في استراتيجية الانتاج، اجاب المحاضر بأنه لازال يؤمن بنظرية أن الانتاج يجب أن يتم على أساس حاجاتنا الاقتصادية ومشاريعنا الداخلية، وأن يتم الاحتفاظ بالثروة في أرضنا لتشغيل مصانعنا أطول فترة ممكنة إلى أن نجد البديل المجدي لمصادر الطاقة، منتقدا أن يتم الانتاج دون اعداد دراسات الجدوى واغفال النظرة المستقبلية للنفط. وفي نهاية اللقاء أشاد راعي المنتدى الأستاذ جعفر الشايب بالطرح النقدي البناء للأستاذ العجمي الذي تضمن أفكارا مهمة ورؤية مستقبلية مكررا شكره على استجابته في عقد هذا اللقاء.
المحاضرة الكاملة: