في أمسية منتدى الثلاثاء الثقافي في القطيف لهذا الأسبوع 22/ يناير/2008م، الموافق 14/محرم/1429هـ ألقى الدكتور عبد الله العسكر محاضرة مشوقة استحضر فيها تاريخ القرامطة في البحرين كنموذج للتداخل التاريخي، وقد أدار الأمسية الباحث والمؤرخ الأستاذ علي الدرورة، فاستهلها بتعريف الحضور بالضيف الحاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة كاليفورنيا من لوس أنجلوس بأمريكا، وهو متخصص في التاريخ الإسلامي وتاريخ الشرق الأوسط الحديث، ومستشار غير متفرغ لدى وزارة التعليم العالي في مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض، صدر له أحد عشر كتابا في قضايا تاريخية متنوعة، فضلا عن الكثير من المقالات المنشورة في المجلات والصحف، ألقى مئات المحاضرات العلمية والأكاديمية في جامعات سعودية وعربية ودولية، كما شارك في عشرات الندوات العلمية والثقافية والبرامج الحوارية في عدة قنوات تلفزيونية حول قضايا معاصرة ذات أبعاد متنوعة، وهو عضو في العديد من المراكز والاتحادات والجمعيات العلمية العربية والأمريكية المهتمة بالتاريخ.
بدأ الضيف طرحه بالحديث عن دراسة المستشرق الهولندي دي خوية(De Goeje) عام 1826م عن قرامطة البحرين (الجنابيين)، والتي أحدثت فتحا أمام طلاب التاريخ الإسلامي كالدكتور برنارد لويس عام 1940م حيث أنجز أطروحته في الدكتوراه عن أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية، ثم الدكتور عبد العزيز الدوري الذي قدم لترجمة هذه الدراسة للغة العربية عام 1947م محاولا تفسير ذلك التاريخ بالاستعانة على مناهج الدراسات الاجتماعية الحديثة، باعتبار أن حركة القرامطة اجتماعية في أساسها وإن لبست لباس الدين؛ المنهج الذي كان شائعا بين جميع حركات العصور الوسطى.
بعد ذلك، انتقل المحاضر للحديث الصعوبات التي تواجه الباحثين في التعرف على تاريخ القرامطة، وأوعز ذلك لأسباب، منها السرية التي تغلف كثيرا من معتقداتهم، والخلط بين شخصيات حقيقية وأخرى وهمية، ثم عدم الجزم بحقيقة نسب القرامطة، الأمر الذي أرجعه غير موقن لتشنيع المصادر العربية لكل ما يمت للقرامطة بصلة، وذلك لما رأوا من مروقهم من الدين وخروجهم على السلطة في مجتمع محافظ، وشرائهم الأصوات الساخطة ضد السلطة المركزية في بغداد حيث قامت حركتهم على يد أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي ومدت نفوذها واسعا بما أتاح لها الاستمرار قرابة 115 سنة، لتسقط بعد ذلك على يد زعيم الثعالبة الأصفر بن أبي الحسن الثعلبي عام 398هـ.
وفي تفصيل دقيق، أسهب الضيف في الحديث عن سبب آخر ساهم في صعوبة التعرف على تاريخ القرامطة، وهو قلة المصادر عنهم وتناثرها، فتحدث عن أغلبها ذاكرا اسم الكتاب ومؤلفه ونبذة ميسرة عن منهج كتابته، ثم أشار إلى أن تلك المصادر متنوعة المذاهب، لكنها في أغلبها سنية، ككتاب (تاريخ الرسل والملوك) للطبري الذي يمثل أقدم مصدر عن حركات الباطنية رغم تواضع اطلاع كاتبه كونه لا يعير الاختلافات الداخلية بين الفرق الدينية أي أدنى اهتمام. وككتاب (ذيل الطبري) الذي وضعه عريب بن سعيد، وفيه تحدث عن بعض الأعمال التي قام بها قرامطة البحرين، وكتاب (السلوك) لبهاء الدين الجندي، وكتابي (مروج الذهب) و(التنبيه والإشراف) للمسعودي وجاء حديث المسعودي فيهما مقتضبا ربما يكون المسعودي قد استقى معلوماته فيه من أشخاص ينتسبون للقرامطة فضلا عن اطلاعه على كتاب عبد الله ابن رزام الإسماعيلي المفقود في القرن الرابع الهجري، وبمناسبة الحديث عن المصادر الإسماعيلية، أشار الدكتور لبعض أهمها ككتاب (المسالك والممالك) للرحالة ابن حوقل، وكتاب (سفرنامة) للرحالة الجاسوس ناصر خسرو، وغيرها من الكتب التي تحتوي على مباحث تاريخية قيمة، إلا أن نشرها تأخر بسبب عدم قبول أوساط المثقفين السنة لها، وتكتم أصحابها عليها.
وفي حديثه عن المؤرخين لتاريخ القرامطة أنفسهم، ذكر المحاضر بعض الأسماء المهمة، كالمؤرخ حمزة الأصفهاني الذي بحث في أعمالهم العسكرية في كتابه (سني ملوك الأرض والأنبياء)، وفيه تطرق إلى الفتن والاضطرابات في العصر العباسي، والتي خلفتها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصراع الطبقي الحاد بين الطبقة الارستقراطية وعامة الشعب، كذلك المؤرخ المثقف ثابت بن سنان الصابي، وفيه أرخ لقرامطة البحرين منذ نشأتهم حتى سنة وفاته، ورغم أنه غير مسلم، إلا أن كتابه لاقى قبولا لدى أهل السنة لاعتماده المنهج التاريخي في تناول الفرق الدينية.
بعد ذلك، عرج المحاضر إلى الحديث عن تفاصيل التداخل التاريخي بين بعض الفرق الباطنية والاسماعيلية والفاطمية مع القرامطة، التداخل الذي أدى إلى غموض واسع اختلف معه المؤرخون قديما وحديثا، فذكر آراءهم في نسب القرامطة أنفسهم مستشهدا برأي الطبري، ثابت بن سنان، ابن رزام، فضلا عن دي ساسي، كازاوفا، ماسينيون، وتراوحت جميعا بين من يرى أن هذه الفرق جميعا تمثل حركة واحدة وبين من لا يرى أي علاقة تربط بينها، وهو الرأي الذي يقول به الدكتور العسكر نفسه.
أما عن أصلهم، فقد استرجع بعض المرويات الطافحة بأسماء يرى المؤرخون لها أمثال ابن حوقل، والنوبختي، ودي خوية أنها المؤسسة لحركة القرامطة، خرج المحاضر منها جميعا بوجود خلط وتداخل واسع بينها جميعا سببه تعدد الشعارات التي نادت لبعض الدعاة كإمامهم محمد بن الحنفية وإسماعيل بن جعفر، وذلك ما جعل المؤرخون يختلفون في أصل القرامطة بين حنفي وإسماعيلي.
أما عن دين القرامطة، فقد ذكر الدكتور العسكر أن آثارا مجوسية ومزدكية وثنوية فضلا عن تعاليم فلسفية كانت هي السند الأيديولوجي لدعوى قرامطة البحرين الدينية، وأشار إلى أن الصلات التجارية والسكانية بين الأحساء وبين فارس والعراق وجزيرة أوال (مملكة البحرين حاليا) ساهمت في خلق هذه الثقافات، أعانتها عليها الحالة الاجتماعية في المنطقة التي غلب عليها الفقر والجهل، حتى قال الطبري في تأريخه للقرامطة أن أغلب أتباعها كانوا من الفلاحين والطبقات العاملة، الأمر الذي اتضح فعلا في القرن الثالث حين أفرزت الحالة الاقتصادية المتردية ثورات شعبية كثورة الزنج والزط معلنة عصيانا متمردا مسلحا لتقوم بعد إخمادها ثورة القرامطة متحدية الدولة العباسية بنشر الإرهاب والقتل العشوائي ومحاولة الاستيلاء على المسجد الحرام واقتلاع الحجر الأسود في سابقة لم يفكر فيها أعداء الإسلام فحملوه إلى الأحساء تحت قيادة زعيمهم أبو طاهر سليمان بن أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، وبقي معهم مدة اثنين وعشرين سنة.
وقد قرأ المحاضر بعد ذلك بعض روايات حادثة اقتلاع الحجر الأسود التي أثبتت فكر القرامطة إذ يرون أن الشرائع الدينية لم تسم إلا لتقييد الجماهير وصيانة المصالح المادية للطبقة الحاكمة والارستقراطية والفلاحون أمثالهم ليسو في حاجة لها، وهذا ما يعلل سبب اتهامهم بالمروق من الدين أو أنهم لا دين لهم أصلا حيث أبطلوا العديد من فرائض الإسلام كالصلاة والصيام بحجة نسخهما، وهجروا المساجد وأكلوا اللحوم المحرمة، ورغم أنهم كانوا يعتبرون القرآن كتابا مقدسا، إلا أنهم تفننوا في تأويل آياته بعيدا عن مفهوم النقل والعقل.
حضر الأمسية جمع من المثقفين والباحثين على رأسهم الأستاذ عبد الحميد الحشاش، مدير المتحف الإقليمي، والباحث عبد الخالق الجنبي، تناولوا مع المحاضر الاتهامات الموجهة للقرامطة، ومنهجية المحاضر في إعادة قراءة التاريخ بعيدا عن التصنيف الديني والمذهبي باعتباره علم كبقية العلوم.
وفي ختام الأمسية وجه الأستاذ جعفر الشايب، راعي المنتدى، شكره للضيف على استجابته دعوة المنتدى، وللحضور على تفاعلهم بما أثرى الحوار.
المحاضرة الكاملة: