في ندوة حوارية تحت عنوان “عودة الحياة لمواقع التراث العمراني”، نظمها منتدى الثلاثاء الثقافي مساء الثلاثاء 16-3-2021م تحدث المهندس بدر الحمدان المتخصص في التخطيط والتصميم العمراني عن مختلف أبعاد عودة الحياة لمواقع التراث العمراني والتحديات التي تواجهه، وأدار اللقاء المعماري سامي الحداد بحضور عديد من الخبراء والأكاديميين المختصين.
وتحدث في بداية الندوة مدير اللقاء حول أهمية التراث العمراني وعودة الحياة لمواقعه مشيرا إلى الجهود الحالية التي تبذلها مختلف الجهات الرسمية والأهلية في هذا المجال. وعرف المحاضر بأنه أفضل من يتحدث في هذا الموضوع لكونه يتمتع بخبرات طويلة وثرية في هذا المجال وهو يحمل شهادة ماجستير في علوم التخطيط والتصميم العمراني، ويشغل مدير عام مركز التراث العمراني الوطني، وسبق له ان تقلد عدة مناصب قيادية في عدة بلديات وهيئات، كما انه كاتب صحفي بصحيفة الجزيرة.
بدأ المحاضر حديثه بتعريف التراث العمراني بأنه كل ما شيده الإنسان من مدن وقرة وأحياء ومبان مع ما تتضمنه من فراغات ومنشآت لها قيمة عمرانية، أو تاريخية، أو علمية، أو ثقافية، أو وطنية، وإن امتد تاريخها إلى فترة متأخرة. وقال أن أبعاد التراث العمراني تتمثل في عودة الحياة إلى المكان، واعتباره كمولد اقتصادي وكمصدر للهوية الوطنية، مضيفا أن البعض عادة ما يتعامل مع التراث بصورة عاطفية بينما هو يحتاج لتنظيم ومنهجية علمية واضحة.
وأوضح في حديثه أن من العناصر المؤسسة لبناء منظومة فاعلة لإعادة الحياة لمواقع التراث العمراني هي الاستثمار في الإدارة والتشغيل لهذه المواقع من خلال البرامج والفعاليات، صون وحماية مواقع التراث العمراني عبر مشاريع الترميم ووضع التشريعات والأنظمة والتصنيف والتوثيق المعماري، التخطيط والدراسات والأبحاث عبر عمل دراسات الجدوى ومخططات حماية التنمية والأدلة الارشادية والمواصفات، وتفعيل التراث العمراني الرقمي كإنشاء مراصد للتراث العمراني وبوابة الكترونية وقاعدة معلومات السجل الوطني.
وبين أن أحد أهم المعايير الرئيسة في تقييم المواقع المؤهلة للانضمام لقائمة التراث العالمي الثقافي والطبيعي بموجب اتفاقية باريس 1972م هي أن يمثل الموقع إحدى القيم الإنسانية المهمة والمشتركة لفترة من الزمن أو في المجال الثقافي للعالم، سواء في تطور الهندسة المعمارية أو التقنية، أو الفنون الأثرية، أو تخطيط المدن، أو تصميم المناظر الطبيعية. وأشار إلى المعايير الثقافية لتحديد القيمة العالمية الاستثنائية للمواقع ومن بينها أن تمثل تحفة عبقرية خلاقة من صنع الإنسان، وأن تمثل إحدى القيم الإنسانية المهمة والمشتركة، وأن تمثل شهادة فريدة من نوعها، وأن تكون مثالا بارزا على نوعية من البناء أو المعمار، وأن تكون مرتبطة بشكل مباشر أو ملموس بالأحداث والتقاليد المعيشية أو الأفكار أو المعتقدات أو الأعمال الفنية والأدبية ذات الأهمية العالمية الفائقة. وأوضح أن وضع شعار التراث العالمي على أي موقع يجعله يتمتع بميزات من بينها الحماية الدولية وتقديم الدعم الفني للحفاظ على الموقع كإرسال الفنيين والخبراء، وتخصيص ميزانية للإجراءات الطارئة وهي عادة ما تستخدم في حالة وقوع كوارث طبيعية.
وجاء في كلمة المهندس الحمدان قوله أن التحدي الرئيس أمام عودة الحياة لمباني التراث العمراني في المملكة كون 85% منها ملكيات خاصة وأن 80% من هذه الملكيات لا توجد لها وثائق مما يسبب في توقف الكثير من المبادرات الاستثمارية، كما أن نزع الملكيات من قبل الدولة لا يحقق الاستدامة المطلوبة. وفي جانب آخر من المحاضرة، أشار الحمدان إلى أن ذاكرة المكان لمواقع التراث العمراني تعبر عن تجسيد ذاكرة الأماكن التي عاش فيها الناس واستذكار حياتهم فيها وربطهم بها من خلال تعزيز العلاقة بين الانسان والمكان، مما يجعل الحياة في المكان أكثر جاذبية ورعاية وملائمة للإنسان، وتكريس كل القيم الت يتعيد الاعتبار للإنسان بدءا من ذاكرة المكان الت يتعبر عن شخصية الموقع الذي يعيش فيه، مضيفا أن بورتريه المدن هو فن إبراز ملامح المدن ووجه المكان وتوظيف العناصر البصرية في تكوين صورة ذهنية واضحة عن إطار الحياة الذي نعيش فيه وصناع احترافية لذائقة المكان ونشر ثقافة الجمال الحضري.
وتناول في جانب من حديثه إلى لائحة التراث العمراني مستعرضا أبرز التطورات في المجال التشريعي المتعلق بمواقع التراث العمراني منذ أن وضع في البداية نظام حماية الآثار ثم صدور نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني عام 1336هـ والذي صدرت تبعا له لاحقا لوائح تنفيذية من بينها لائحة التراث العمراني التي تتألف من 11 مادة أساسية و 48 مادة تفصيلية شملت التعريفات والأحكام وحماية مواقع التراث والمحافظة عليها، ومنطقة حماية التراث العمراني وحصر وتوثيق التراث العمراني وسجل التراث العمراني، وصيانة التراث العمراني واستغلاله واستثماره، وضوابط التعامل مع ملاك وحائزي مواقع التراث العمراني.
ووجه الأنظار إلى أن إعادة الحياة لمواقع التراث العمراني تتطلب تعريف الناس بهذه المواقع بصورة جاذبة، وتهيئة البنية التحتية بصورة مناسبة، وخلق فعاليات مستدامة في هذه المواقع، وعندها يعادل عائد الاستثمار في هذه المواقع أضعاف عوائده في المشاريع الأخرى. وأوضح أن من أهم ملامح خطط العمل لإحياء مواقع التراث العمراني: الانحسار التدريجي لدور الحكومة التنفيذي وتمكين المجتمع المحلي، وضع سياسات وضوابط مناسبة للتعامل مع هذه المواقع، تأهيل المكاتب الهندسية والمقاولين، وتعزيز التدريب وتأسيس مسارات تعليمية متخصصة.
وختم حديثه بالقول أن الجمعيات المعنية بمواقع التراث العمراني بحاجة إلى تنظيم وتأهيل لمواكبة الاحتياجات، وهناك بعض النماذج الناجحة في عدة مناطق لتمكنها من التنظيم المجتمعي وأخذ مبادرات مخططة بشكل جيد. واستعرض العديد من التجارب القائمة في مناطق المملكة المختلفة التي حققت نجاحا في إعادة إحياء المواقع التراثية.
وجاءت مداخلات الحضور من المختصين والمهتمين لتسلط الضوء على جوانب إضافية من موضوع الندوة، فطرح الأستاذ أمين الصفار الوضع الحالي لمنطقة البلدة القديمة بجزيرة تاروت التي تقع حوالي قلعة تاروت حيث أنها مأهولة بالسكان ولديهم الاستعداد للعمل على الحفاظ على هذا الموقع وإعادة إحيائه مما يعني ضرورة وجود الجمعيات الأهلية المتخصصة والمعنية بالموضوع. وأشار الدكتور جمال العليان من جامعة الملك سعود إلى ضرورة وجود مشاريع قوية وجاذبة في مواقع التراث العمراني لتكون مصدر للجذب والاستثمار وألا يقتصر الموقع على ما فيه من معالم، مضيفا أن هناك تجارب عالمية رائدة في تشكيل جمعيات المحافظة على التراث كجمعية ترست في بريطانيا التي أنشأها مجموعة من المفكرين والأكاديميين وساهمت في ترميم آلاف المواقع جول العالم.
وتحدث الدكتور عجب العتيبي حول مشكلة تعدد الملاك وتعقيد الإجراءات مما يشكل عوائق حقيقية للحصول على رخص الترميم في مثل هذه المواقع. ونبهت الدكتورة تغريد الجهني من جامعة طيبة إلى أن التطوير وإعادة البناء في معظم مواقع التراث العمراني أخذت نماذج وأشكالا محددة بينما لكل منطقة ميزة تميزها عن غيرها وأن الفترات الزمنية لهذه المواقع مختلفة ومتباينة، موضحة أن الاهتمام بهذا الجانب يخلق ميزة ثقافية تنافسية بين مختلف المواقع، متسائلة عن سبل إيجاد سياسات منظمة بين الاستثمار السياحي والوظيفة الواقعية لموقع التراث العمراني.
وفي نهاية اللقاء تحدث المشرف على المنتدى شاكرا المحاضر على ما قدمه من معلومات ثرية وآراء ناضجة وجادة حول سبل النهوض وإعادة إحياء مواقع التراث العمراني، مؤكدا على أهمية معالجة البطء في الإجراءات البيروقراطية التي تكون عائقا أحيانا أمام المبادرات الأهلية.
لقراءة ورقة المحاضرة وتحميلها:
لمشاهدة المحاضرة كاملة: