مسفر القحطاني: «أزمة الوعي الديني» سببها فقر «البيئة الثقافية»

3٬487

أكد الكاتب السعودي الدكتور مسفر بن علي القحطاني، حاجة المجتمع لطرح المواضيع والقضايا التي تفرضها طبيعة الظروف التي يمر بها مثل: قضايا أزمة الوعي الديني، التي كانت عنوان محاضرة ألقاها في «منتدى الثلثاء» في القطيف أخيراً. وعرّف القحطاني بداية مفردة الوعي لغوياً من كتاب المصباح المنير للفيومي بأنها الحفظ والتدبر وجمع الشيء كله من قوله تعالى: (فجمع فأوعى). ثم عرّف مفردة الأزمة بالنهج نفسه، فاعتمد على كتاب «الرائد» لجبران مسعود، الذي عرّفها بالقحط والشدة والضيق. وتعمق المحاضر في بيان معنى المفردتين بالرجوع لعدد من المصادر المختلفة التي تتفق على أساسيات التعريف، ليشرح بعد ذلك ما استخلصه من معان وظفها في عنوان محاضرته، وتحديد هوية القضية التي تبحثها، مشيراً إلى كونها ملتفة بشكل يصعب على الرأي فهم تداخلاته وتناقضاته، فضلاً عن حصرها بين جبلين عاليين من الأفكار والقناعات يصعب تغييرها.
بعد ذلك حاول تأصيل هذا المفهوم في الشريعة الإسلامية بقراءة سريعة لحال العرب قبل الإسلام في المجتمع الجاهلي، ثم الانقلاب الكبير الذي حوّل الإنسان من حياة الخضوع والركود والانغلاق، إلى حياة المعرفة والانطلاق وصناعة الحياة القائمة على العلم والبيان والحجج العقلية الدامغة بالرسالة المحمدية، مشيراً إلى دور القرآن الكريم في تكوين العقلية العلمية الرافضة للخرافة والتقليد وتهيئته مناخاً فكرياً ونفسياً للتدبر فيه. ثم شرع حديثه للمقومات التي بناها القرآن لمنهجه ذاك من رفض الظن في موضع اليقين، وعدم اتباع الأهواء والعواطف في مجال العلم، ورفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، والتقيد بالنظر العقلي ورفض التبعية للسادة والكبراء، مستشهداً على كل ذلك بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وأشار المحاضر إلى أن مخالفة المنهج الذي رسمه القرآن لخلق العقلية العلمية سبب الضلال والانحراف في الأمة، خصوصاً مع وجود ضعف الوعي الديني وإعمال العقل العلمي في فهم الدين كما حصل مع خوارج الأمة، ليؤكد في نهاية حديثه حول تلك الفكرة حاجة العالم الإسلامي إلى دعامتين للوصول بيقظتها للكمال، وهما دعامة التجربة الإيمانية الحية، ودعامة الفكر المحرر على شروط المناهج العقلية.
ثم انتقل الدكتور مسفر إلى الحديث عن أزمة الوعي في بعث الخطاب الديني المعاصر، مشيراً إلى بعض صور ممارساته الخاطئة، فبدأ بأزمة التطرف الفكري والديني، فحدد مظاهرها بتعريف مفهوم التطرف بداية، والذي عبّر عنه بوجود ألغام فكرية يتبناها أفراد يجعلونها قناعات لهم تبقى في عمق أذهانهم منتظرة فتيلاً مناسباً لتنفجر. وأشار إلى الأسباب الجذرية لهذه الحال، والمنطلقة جميعاً من قاعدة الانغلاق الفكري في فهم الدين وفقه التدين، ومنها وجود عقلية البعد الواحد التي تعدم مجالات الحوار وتتعامل ككتلة صلبة ذات وجه واحد يحكم عليه بسرعة من دون اعتبار لأسبابه ومكوناته، كالحكم على كل الغرب بالإجرام والكفر مثلاً. ومتعمقاً في أسباب التطرف الديني، أشار الدكتور إلى فقر البيئة الثقافية والاجتماعية وتسببها في الكثير من الممارسات الخاطئة، كالتعصب للعلماء والاعتقاد بآرائهم بما لا يحتمل قبول آراء غيرهم، حتى وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية، أو التعصب ضدهم بتقديم الفهم الشخصي على فهمهم. وأخيراً التتلمذ على الأصاغر من دون العلماء الراسخين في العلم.
المظهر الثاني لأزمة الوعي في الخطاب الديني كان في نظره غياب فقه المقاصد الشرعية، وفي هذا الجانب، ومقاصد الشريعة عرفها المحاضر بأنها المعاني والأحداث الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها، وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشرع، ولتوضيح فكرة المقاصد، أشار المحاضر إلى مقاصد عامة لم تختص بأحكام معينة، كالعدل ونبذ الفرقة والخلاف، ثم تطرق لبعض الخلل في مفهوم المقاصد، كمقصد الجهاد ومقصد الجمال والحب والترفيه. المظهر الثالث أطره المحاضر بتهميش فقه العمران الحضاري، وأشار في هذا المظهر للقطيعة الواضحة بين فقه العمارة وفقه العبادة ولكلاهما خلق الله الخلق فقال: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، أي طلب إعمارها. وأكدت ذلك التوجيهات النبوية فقررت قيمة العمل وأهمية الاستثمار للأرض ومدخراتها. وأشار إلى الشواهد العمرانية التي غيرت وجه التاريخ في منظور بول فاليلي حين كتبها عن معرض أقامته إحدى المؤسسات التعليمية في بريطانيا لمآثر المسلمين. كما أشار إلى شواهد الآثار العمرانية في الأندلس والهند وتركيا على الحضارة الإنسانية.
المظهر الأخير كان مثّله الدكتور القحطاني في اغتيال دور المرأة الإصلاحي وتهميشها فكرياً على رغم أنها تمثل نصف المجتمع إن لم يكن أكثر، وأشار إلى تركيز الخطاب الإسلامي الموجّه للمرأة في الآونة الأخيرة على حجابها وكرامتها وضرورة مواجهتها للفكر العلماني الذي يستهدف كل ذلك، وبالقدر الذي أكد فيه المحاضر أهمية ذلك، أكد ضرورة التركيز على الدور الذي يمكنها تأديته فكرياً وثقافياً واجتماعياً بدءاً من أسرتها، مؤكداً أن استسلام المرأة لهذه الضغوط أدى إلى بروز الكثير من المشكلات لديها كضعف إنتاجها العلمي وانشغالها بالمظاهر في جزء كبير من حياتها، وشدد على حاجة المجتمع للمؤسسات التي تهتم ببناء الوعي الفكري للمرأة.
واكتظت الندوة بالحضور الذين تداخلوا مع المحاضر بالنقاش حول بعض الأفكار التي طرحها، فتساءل الدكتور توفيق السيف عن جذور أزمة الوعي الديني، ولخّصها في أزمة التعامل مع الحداثة بسبب الانفتاح على تشكلات التطور والتحديث في المجتمعات الأخرى، فيما ناقش الأستاذ ذاكر حبيل أزمة التعاطي مع مناهج التجديد والإصلاح في الأمة، متناولاً نماذج عدة أسهمت في التراجع عن هذه الأطروحات. وانتقد الأستاذ جاسم مشرف توجيه الاتهام للآخر والإصرار على فرض منهجية أحادية حتى في معالجة الأزمة القائمة، إذ تنعدم أساليب الانفتاح على الفكر الآخر.

قد يعجبك أيضاً

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق أقرأ المزيد