الأستاذ عبد الباري الدخيل
والحزن يخترق صدري، قلت لأمي: لا،.. ثم احتضنتها وبكيت، وهي تمسح على رأسي، وتربت على كتفي، وتطالبني بالهدوء والصبر.
عامان يفصلان بين قولي لأمي: نعم، وقولي: لا.
ذات مساء جاءني أحمد ابن أخي وأنا في مرسمي الصغير أمارس هوايتي المحببة، وأخبرني أن أمي تريدني، فنظرتُ للساعة متعجبةً، فليس وقت عشاء، فماذا تريد مني أمي الآن؟
كنت قد هيأت غرفة الملحق التي في سطح المنزل كمرسم أمارس فيه هوايتي ضمن طقوس خاصة، بعيداً عن الأطفال والضجيج، وكان يصعب على أمي الصعود للسطح، لذا فهي ترسل بعض الاطفال نيابة عنها إذا احتاجت لشيء مني.
أمسكت بيدي، وأخذتني إلى غرفتها بعيداً عن الأعين والآذان وهمست: ”جاينك عريس“.
ابتسمتُ وقلت: ”ومِن قال لك إني أبغي أعرس؟“؛ هكذا أجيب أمي كلما أتت تخبرني بأمر عريس جديد جاء لخطبتي، ويعود الحديث عن مصير البنت أن تتزوج، وتكوّن أسرة، وأعود لأخبرها أنني أريد أني أكمل دراستي، وأعمل.
هذه المرة كان إصرار أمي مختلف.. فهذا شاب متدين ومن أسرة معروفة، ويعمل في وظيفة جيدة، وصديق أخي حسن، ولا مانع لديه أن أكمل دراستي، وأن أعمل.
لم يكن هذا رأي أمي فقط، فقد صنع أخي حسن جواً حولي..
فأبي قال لي: رضيته لك فالنبي ﷺ يقول: ”إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه“.
وأخواتي حدثوني عن هذه الفرصة التي قد أندم على التفريط بها.
حتى زوجة أخي قالت: ”لو سوير كبيرة عرستها عليه“.
سلمتُ أمري لله ووافقتُ على أن أكون زوجة له بشروط ثلاثة كُتبتْ في العقد؛ إكمال الدراسة، والعمل بعدها، والسكن المستقل، فوافق على الأول، وتلكأ عند الثاني لكنه وافق، وعن الثالث قال: يوجد لدي شقة في بيت أبي.
لم يكن مميزاً بأي شيء فهو شاب، نحيف، طويل قليلاً، ملتحٍ، يلبس نظارة طبية، وشعره خشن، يخفيه تحت الغترة، لا يتحدث كثيراً، ولا تعرف الابتسامة لوجهه طريقاً إلا ما ندر.
قضينا السنة الأولى وبعض السنة الثانية في تأثيث الشقة، متنقلين بين محلات السراميك، ومعارض الأثاث، وفي اختيار أطقم الحمامات، والمطبخ، حاول أن يجعلني رفيقة دربٍ فقط، وأن يكون القرار النهائي له، لأنه من سيدفع، لكنني كنت أعترض وأبدي رأيي في بعض الاختيارات، وأقول له عن بعضها بصراحة أنها غير متناسقة الألوان، وكان يرد: كلها نفس الشيء.
كان خياره بالنسبة للمطبخ أن نشتري مطبخاً جاهزاً، لكنني رفضت بحجة أنه لا يناسب، وحاولت معه أن نزور المحلات التي تصمم المطابخ حسب الموقع والمساحة، وكان يرفض ذلك بإصرار، قلت له: من الذي سيطبخ أنا أم أنت؟ فسكتَ واستجاب لطلبي على كراهية واضحة في وجهه.
ثم بدأتُ في تنسيق الشقة، ووضع اللمسات الأخيرة عليها، وتوزيع والصور، فصنعت تحفة فنية أعجبت كل من زار الشقة، سواء من أسرتي أو أسرته، إلا هو كان يلوذ بالصمت كلما سمع مدحًا للمساتي، ويقول بعد أن يغادر الزوار، كل هذا خسارة في الوقت والجهد.
بعد الزواج وانتقالي للشقة الجديدة، انشغلت قليلاً عن الرسم، فلا الشقة تسمح أن أفرد غرفة لهوايتي، ولا الوقت يتسع لها، حيث لا أتوقف عن العمل من الخامسة صباحاً وحتى العاشرة مساءً، كربة بيت وتلميذة في السنة الدراسية الأخيرة، لكنني كنت أقضي بعض الأوقات في القراءة عن الفن وتجارب الفنانين، وأتفرغ للإبداع كلما زرت بيت أهلي، وقد زرتُ بعض المعارض التشكيلية مع صديقتي عبير وأفراح، مغتنمةً الفرصة لأعيش لحظات بين الألوان واللوح والأفكار المجنحة على أطراف رائحة القهوة.
كانت الأفكار تهاجمني فأحبسها لحال زيارتي لمرسمي، وكانت ريشتي المتحفزة تدفعني للهرب من الشقة إلى المرسم، فتبدأ لوحة بالتكون، وتقف أخرى لتستريح الألوان قليلاً قبل أن تلهث من جديد خلف التكوين الأجمل، للحاق بمشاهد مرت على العين ويصعب تركها تهرب، ف ”الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات“ كما يقول ”بيكاسو“.
ورغم أنني لا أبحث عن التمرد والاختلاف في حياتي ولوحاتي إلا أنه كان يضيق بالرسم والقراءة، ويعلق بأن كل هذا مضيعة للوقت، ذات أمسية قال: لو أنك تتعلمين الطبخ، وتقرئين فيما ينفع آخرتك أفضل لك، وكنت أرد عليه: الثقافة واحدة لا تتجزأ فأنا أقرأ في الدين وفي الدنيا، ولو أنك تعلم ما للفن من فوائد على بناء الوعي عند الفرد والمجتمع لما تفوهت بهذه الكلمات.
ثم اعتدلت في جلستي وواجهته وأكملت: نعم.. فهناك علاقة كبيرة بين دور الفن في أي مجتمع وحركته وتطوره. فالفن يؤثر في المجتمع وبالعكس، فتمتم: بدأت الفلسفة.
قلت له: هل تعلم أن هتلر استفاد من الفن التشكيلي ليوحد ألمانيا؟
قال: وصلتِ إلى هتلر؟
قلت: حتى الإسلام استفاد من الفن في صنع حضارته، هل رأيت جمال المساجد والمنازل التاريخية؟
قال مستفزِاً: خربشات تسمونها فناً.
فأجبته بعنف: اللوحة الفنية هي عطاء الفرد للمجتمع، ولكل لوحة قراءتها وتميزها، فكما أن قراءة الحروف تحتاج إلى تعلّم، كذلك اللوحات تحتاج لقراءة الخطوط والألوان.
ذات مساء اتصلت بي الفنانة التشكيلية عبير وهي صديقتي وزميلتي في الدراسة والرسم، وقالت أنها رشحتني للمشاركة في منتدى الثلاثاء الثقافي لأعرض لوحاتي ضمن الفعاليات المصاحبة للندوة، فأجبتها بأني لا أعرف عن الفعاليات، ولأنني لم أحضر أي ندوة للمنتدى من قبل فإن الصورة غير واضحة لي.
واستجابة لاقتراحها اصطحبتني لزيارة المنتدى لأعيش تجربة مثيرة، فلأول مرة أشاهد هذا التكون الثقافي الرائع، والتدافع المعرفي الجميل، بدأ البرنامج بأخبار عامة، ثم تحدث المصور عن صوره المصاحبة، وعن أفكارها وقصصها، وأماكن التقاطها، وعن الجوائز التي حصل عليها.
بعدها بدأت الندوة بحديث للضيف المحاضر استمر لقرابة خمسين دقيقة، ثم بدأ حوار مفتوح شارك فيه الحضور من الرجال والنساء، وختمت الجلسة بتكريم المشاركين، وبجولة مع المصور على صوره، والاستماع للأسئلة الموجهة له وإجاباته عليها.
وكانت الطامة بعد يومين عندما تلقيتُ اتصالاً من المنتدى بحضور زوجي، وأجبتُ بالموافقة، لكنني قد أحتاج لأكثر من أسبوعين لإعداد ما سأعرضه من لوحات.
فوقف زوجي وكأن جمرة وقعت في حضنه، وخاطبني بعنف: كيف توافقين على المشاركة في المنتدى قبل أن تستشيرينني؟ فأجبته بأن موافقتي مبدئية وكنت سأخبره بذلك.
قال: ومن سمح لك باتخاذ قرار منفرد؟
قلت وفي صوتي بحة انكسار: وهل هذا القرار يحتاج إلى استئذان؟
قال: نعم، فأنا أرفض أن تتركي بيتكِ وأطفالكِ من أجل هذه الأشياء التافهة.
قلت بصوت كله حزم: متى أصبح الفن التشكيلي، والمشاركة في المعارض شيء تافه؟ متى تفهم بأن الفن يعلّي من ذوق المشاهد ويرفع من حسه الجمالي؟
وتنفستُ بعمق ثم قلت: هل تعلم أن الفنون تجعَلُ الإنسان أكثر رقياً، ودائماً ترتبط بالإبداعِ والعبقريّة؟ وأن ثقافة المجتمع تنعكس على كل الفنون؟
قال وهو يلوح بيديه: رجعنا للفلسفة.
ثم خطف الهاتف من يدي واتصل بالرقم المتصل سابقاً، وأخبرهم أنني لن أشارك معهم إلا بشروط، وأولها ألا يكتب اسمي في أي إعلان، وإن كان لابد فليكتب زوجة فلان، ثم قال: أنا سأحضر نيابة عنها، فهي مشغولة بالبيت والأولاد، إلا أن طلبه قوبل بالرفض، فقال: إذاً لن تشارك معكم.. وأقفل الهاتف.
عندها وقفت أمامه كاللبوة الجريحة وصرخت في وجهه: من أنت حتى تتحكم في اختياراتي، وتملي عليّ ماذا أفعل؟
قال: أنا زوجك ومن حقي عليك ألا تفعلي أي شيء إلا بإذني.
قلت: هل أعطاك الله هذا الحق؟ أم أنك تريد فقط فرض رأيك؟
قال: يبدو أنك لم تنالي من التربية كفاية لتتأدبي في الكلام مع زوجك.
قلت: بل من رباني أحسن تربيتي، ولتنظر من الذي لم يُربَ جيداً.
وإذا بالوحش قد خرج من ثوبه، والنار تشتعل في وجهه، ولم أرَ، ولم أمسع أي شيء بعد أن تلقيت لطمة على العين، وعدد من اللكمات وسقطت على الطاولة ثم على الأرض.
في مستشفى القطيف المركزي التحفتُ بحزني، وتكومت على ألمي، ورفضت بقوة لا أعلم من أين تسللت لقلبي مقابلة أي أحدٍ من طرفه، فقد جاء والده يرجوني أن أتنازل عن شكواي ضده، لكنني رفضت، وطالبت بحبسه.
قلت له: إن حضورك على رأسي وعيني، وعزيز عليّ أن تخرج وفي قلبك قليل من حزن بسببي، لكن ما فعله ولدك لا يغتفر، فقد تسبب لي بكسر في اليد، وتمزق في قرنية العين، وأفقدني حلم الأمومة.
ثم لذت بقلب أمي، وارتميت في حضنها أشكو غرور ووحشية من ظننت أنه الرجل الذي سيحميني، فتفتحت زنابق حزننا، وذرفت من دموعي على دموعها، وأشعلت من تأوهاتها قناديل على جدار الحزن، أنصتُ لقلبها لعلي أسد جوع قلبي، فوجدته أكثر جوعاً للفرح، وأبعد عن ربيع الصحراء، يشتكي العطش في كهوف الحزن.
لقد استدعى حزنها عليَّ كل أحزانها السابقة، وكأن حزناً واحداً لا يكفي لتمزيق قلبها الرقيق كرقة ورق الورد.
قالت رغم الحزن البادي في عينيها: استعيذي بالله يا ابنتي، وقولي نعم.
لم أستطع إخفاء حزني وقلت بعد تنهيدة طويلة: إنني أعتذر يا أمي، هذه المرة لا أستطيع أن أقول نعم.