الأستاذ محمد الحرز
لاح في ذهني هذا السؤال وأنا أستمع إلى محاضرة الدكتور عبدالجبار الرفاعي بعنوان «ما تعد به فلسفة الفقه» والتي ألقاها في منتدى الثلاثاء عبر منصة زووم، يوم الثلاثاء الماضي، حيث تحدث فيها عن هذه الفلسفة بوصفها المعرفة العقلية التي غايتها مقاربة العلوم الفقيه من خارجها، والاعتماد في هذه المقاربة على ما أنتجته العلوم الإنسانية من معارف في جميع الحقول بداية من الألسنية وتحليل الخطاب والانثروبولوجيا وفلسفة الدين وانتهاء عند التأويلية، وهي في كل ذلك تهدف إلى استظهار العوامل الخفية أو (الماكنايزمات) التي تتحكم في عمل الفقيه حال صدور فتواه وطريقة استنباطه للأحكام الشريعة، أي بمعنى آخر: أنها تظهر كيف يتعامل الفقيه مع أدواته التي هي خاضعة بالدرجة الأولى للشروط الثقافية والبيئية والاجتماعية التي تتصل بالفقيه نفسه، فدرجة الاختلاف بين فقيه وآخر، في إصدار فتواه، تخضع لهذه الشروط وهذه العوامل. وانطلاقا من ذلك ففقيه من العراق، يختلف في فتواه عن فقيه من مصر أو المغرب العربي وهكذا.
وتكمن مهمة هذه الفلسفة المضافة إلى العلوم الفقهية إظهار درجة الاختلاف وأسبابها والكشف عن الطرق والتصورات التي سلكها الفقيه حتى جاءت فتواه واستنباطاته على الهيئة التي اكتملت عليها. وقد أوضح الباحث الأهمية الكامنة خلف هذا العلم الجديد بالنسبة للمؤسسات الدينية أهمها على الإطلاق تجديد التصور الديني بما يتناسب والرؤية المعاصرة للقضايا الدينية المطروحة على الإنسان المعاصر، علاوة على ذلك تفكيك قيمة الحيادية أو الموضوعية التي ترتبط بفكرة التقديس المصاحبة لعمل الفقيه إذ يكشف – كما قلنا- عن تلك الشروط المؤثرة في إنتاج فتواه، من قبيل مؤثرات المنطق وعلم الكلام وعلم الحديث والتفسير وعلوم اللغة ونحوها.
ذلك على الرغم من أن هذا العلم كما يشير الباحث بدأ يحظى بالاهتمام داخل هذه المؤسسات منذ ما يقارب أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وعلى يد باحثين ودارسين جادين ربما هذا الاستعراض اختزالي لمحاضرة امتدت أكثر من ساعتين جرى فيها الكثير من المداخلات وطرح الأسئلة والاعتراضات، ولا غرابة فالدكتور عبدالجبار الرفاعي شخصية دينية ومثقفة معروفة سواء على مستوى الدراسات الدينية أو على مستوى الدراسات الأكاديمية، وله مريدون وطلاب كثر.
لكن ما أثار فضولي وجعلني استدعي السؤال الموضوع جهة العنوان، هو التساؤل عن معنى الوعود المستقبلية التي تشي بفتوحات تنويرية إذا ما حقق هذا العلم أهدافه وأصبح مؤثرا في جل الدراسات المقاربة للدين وعلومه بشكل عام. لكن حينما ننظر إلى واقع المجتمعات الإسلامية حاليا، والإرث التاريخي الفقهي في الحضارة الإسلامية نصل إلى نتيجة مفادها: تضخم الإرث الفقهي منذ الاجتهادات التأصيلية للشافعي في القرن الثاني إلى العصر الحالي، لا نحتاج فيه إلى فلسفة تفكك خطاب الفقيه وترجعه إلى أصوله المعرفية الأولية، هذا لن يؤدي الدور التنويري كما يجب، بحيث يعيد وصل قضايانا وأزماتنا الحالية كمسلمين مع إسلامهم ومع العالم في هموم مشتركة ومؤثرة، بل أرى أنها تؤدي إلى نوع من الانغلاق على الذات، كل في مذهبه وطائفته، وبالتالي لا معنى لفكرة المقاربة الفلسفية من الخارج إذا ظلت مرتبطة بخطاب الفقيه، حتى وإن قيل بأهمية اجتراح علوم أخرى تمس العلوم المعاصرة، كفلسفة الدين أو علم الكلام الجديد.. إلخ.
الخلاصة التي أود تمثلها أننا بحاجة إلى مناهج تذهب إلى العمق من تراثنا، وتخلصه من هذا الإرث الثقيل دون أن تلقيه، ولا أجد أمامي سوى جنيالوجيا نيتشه أو مطرقته التي تفكك الأصول وليس الفروع منها..