في أمسية فكرية متميزة وحضور ثقافي ملفت اكتضت بهم قاعة الحفل، نظم منتدى الثلاثاء الثقافي حفل تكريمه الذي يقيمه سنويا وخص به المفكر الاستاذ ابراهيم البليهي الذي تميز باطروحات تجديدية جريئة في نقد الفكر العربي والاسلامي، وتعالج اشكاليات بنية االتخلف، حيث استضاف المنتدى في اللقاء كل من الاستاذ هشام قربان والدكتور خالد الرفاعي والدكتور توفيق السيف والدكتور ابراهيم المطرودي لمناقشة أبرز نظريات وأفكار البليهي، وذلك مساء الثلاثاء 3 جمادى الثانية 1441هـ الموافق 28 يناير 2020م. وبعد مداخلات الحضور التي أشادت باهتماماته وأفكاره، عقب الأستاذ البليهي على مشاركات الباحثين ومداخلات المثقفين بصورة تعزز طرح نظرياته التجديدية.
وقدم الحفل الاستاذ زكي البحارنة الذي تحدث عن أهمية هذا اللقاء حيث أنه يأتي والساحة الفكرية العربية تشهد كثرة نسبية من المراجعات في عموم المدارس الفكرية والدينية، مع اتساع في مساحة الوعي بضرورة التجديد ومراجعة الأنساق الثقافية السائدة. واعتلى المنصة المشرف على منتدى الثلاثاء الثقافي الاستاذ جعفر الشايب الذي أشاد بتجربة البليهي الفكرية ومحاولاته الجادة للبحث عن مخرج لأزمة التخلف التي تعصف بمجتمعاتنا وتعيق تنميتها، الذي ساهم بأسلوب نقدي واضح في البحث عن مكامن الخلل وسبل المعالجة. وأوضح الأستاذ الشايب الدور الذي يلعبه منتدى الثلاثاء الثقافي على المستوى الثقافي الوطني في سعيه لكسر الحواجز الفكرية والأسوار المذهبية والمناطقية وطرح العديد من القضايا والمواضيع التي تهدف لتعزيز الوحدة الوطنية بأساليب إبداعية مبتكرة، موضحا اهتمامه بأن يتحول المنتدى إلى مؤسسة ثقافية أهلية رائدة.
وفي ورقته المعنونة «نظريات البليهي: مفاتيح لفهم فكره ومنهجه» تحدث الكاتب والباحث الأستاذ هشام قربان عن نظريات البليهي الخمس التي ترتكز أفكاره حولها وأهمها أن الإنسان كائن تلقائي أي أنه لا يولد بعقل جاهز بل بقابليات فارغة غير متشكلة ومرنة، وأن هذه القابليات مطواعة وقابلة للتشكل بمن يسبق إليها من أي نسق ثقافي. وأضاف أن البليهي يقول بأن عقل الإنسان يتشكل تلقائيا خلال السنين الست الأولى من طفولته بصورة مماثلة لنسق الثقافة السائدة في محيطه عن كريق ما يسميه «التناسل» أو «التناسخ الثقافي» وينتج بناء صلبا أو نسيج محبوك يصعب تغيره بمجرد تعريض العقل لمعلومات جديدة أو مغايرة. وتناول موضوع صعوبة انكسار تلقائية المجتمع من خلال بيئات محفزة تتوفر فيها حريات كاملة تثمن فردية الانسان وتعلي قيمته حيث يتعرض العقل لصراع ألأفكار.
وتناول الدكتور خالد الرفاعي الاستاذ المساعد بقسم الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية في الرياض في ورقته التي عنونها «فعل الكتاية وأسئلتها في تجربة ايراهيم البليهي» حالة التكرار منمط كتابي لا يعثر المتلقي فيه على أفكار نهائية أو مكتملة بقدر ما يعكس حالة التفكير فيها ومن ثم مراحل تخلقها وتطورها بكل ما تحيط بها من هواجس وقلق وبحث وتأمل. وأضاف الرفاعي أن فعل الكتابة لدى البليهي تساوي فعل التفكير لديه معتبرا اياه الكاتب السعودي الوحيد الذي يكتب بهذه الطريقة عن وعي وقصدية حيث يراه أنه النمط المناسب للمشروعات الفكرية التي تتطلب التركيز الشديد والاستقصاء التام حول قضايا محددة. وحدد الدكتور الرفاعي العوامل المتعددة التي ساعدت على تحكم هذا النمط بتجربة البليهي ومنها ارتباطه بالكتابة الصحفية كوسيلة رئيسة للتعبير عن أفكاره، ومقروءه الواسع في مجالات معرفية معقدة، ولطبيعته في القراءة والكتابة التي لا تخضع لنظام دقيق.
وناقش الباحث والكاتب الدكتور توفيق السيف في كلمته «مغامرات العقل وتحرر الإنسان» مجموعة من أفكار الأستاذ ابراهيم البليهي ومن أبرزها فكرة «القابليات الفارغة» معترضا على ذلك بقوله أن الانسان لا يولد فارغا وإنما يولد ولديه عقل وإرادة وغرائز ويمكنه بذلك أن يتمرد على البيئة المحيطة به خلاف مايراه البليهي، موضحا أن الإنسان يأخذ القدرات من محيطه الذي يتأثر به. وأوضح أن تشكل هوية الانسان تأتي من فرديته ومن خلال العلاقة المزدوجة بينه وبين مجتمعه ليكون مرضيا عنه في المجتمع وأن ما يأخذه الفرد من المجتمع لإعادة انتاج كريقة التعامل مع المجتمع هو ما يشكل هويته، مشيرا إلى أن البليهي بالغ في تقدير عجز الانسان في مقاومة التاثير الاجتماعي. وبيّن أن الإكار البليهي تعطي احساسا غامضا غير مصرح به ينم عن التشاؤم إزاء الطبيعة البشرية كما يرى ذلك بعض الفلاسفة بأن الإنسان أكثر ميلا للفساد ,انه ذو طبيعة شريرة معتقدا بأن كثرة كلام البليهي التشاوؤمي حول طبيعة الانسان هي عملية غير صالحة.
وطرح الدكتور ابراهيم المطرودي الاستاذ المشارك في قسم النحو والصرف وفقه اللغة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية في ورقته «المتلقي في مشروع ابراهيم البليهي» عرضا لحقبتين مختلفتين في النظر إلى المتلقي والتعامل معه، الأولى أن البليهي كان ينطلق من أن المتلقي قادر مقتدر على تغيير نفسه ومن حوله كخطابه في «بنية التخلف» حيث يبرز الأمل الكبير فيه وإن كانت المجتمعات تقف حائلا دونه وتصده النشأة وظروفها. أما الحقبة الثانية فيمثلها في حديثه في التلقائية التي يؤسس فيها على أن المتلقي غير قادر على تغيير نفسه وتطوير من حوله، وأن التغيير أمر صعب وأصبح خطابه الفكري يحمل قنوطا ويأسا مشترطا تبني السلطة السياسية لمشاريع التغيير وحصول تأثير للأفكار الرائدة وشرط لأخذ الناس بها.
تناول المتداخلون أفكارا متعددة وطرحوا أسئلة جادة حول التجربة الفكرية للأستاذ ابراهيم البليهي، فشبه الدكتور رمضان الغزال أزمة العقل عندما تكون مناعته ناقصة بالانهيار الذي يحدث للجسم عندما تنهشه الأمراض الحادة التي تشل حركته بسبب ضعف مناعته مشددا على ضرورة معالجة بنية العقل وأزمة التخلف فيه. واستوضح الأستاذ نادر الابراهيم عن الخلط بين الفكر والغرائز في معالجة البليهي الفكرية وقدرة العقل على الاستيعاب ومعوقات التغيير الاجتماعي وأهمية الفكر الناقد في المجتمع، وأشادت الدكتور أميرة كشغري على ما يطرحه البليهي من نظريات وأفكار مغايرة حيث نعيش حالة صعبة وبائسة من سوء الاستجابة مؤكدة على أهمية فكرة تبني السلطة السياسية للأفكار الجديدة والتغييرية.
وتحدث الشيخ حسن الصفار مرحبا بالأستاذ البليهي معتبرا إياه علما فكريا بارزا ومشيدا بالدور الذي يلعبه المنتدى في طرح الأفكار الجديدة والتغييرية ومواجهته لضغوط المجتمع في مقاومة التغيير والتجديد ومساعدة المفكرين التجديديين على البروز. وأوضحت الدكتورة سهير فرحات أن سمة التكرار في فكر البليهي تعني الاهتمام المكثف ويهدف إلى تعزيز الفكرة وهو أسلوب متبع في العديد من مصادر التوجيه الفكرية، وانتقد الدكتور محمد العسكر الشللية الفكرة معتبرا إياها أحد أبرز معوقات الثقافة الواعية.
وفي نهاية اللقاء، أعرب الأستاذ ابراهيم البليهي عن شكره وامتنانه لمنتدى الثلاثاء الثقافي ولبقية المتحدثين المشاركين في الحفل، وتناول العديد من القضايا التي تم طرحها في النقاش والمداخلات ساعيا إلى الرد عليها بصورة إجمالية موضحا مفهومه للطبيعة البشرية ضمن رؤية شاملة عن الإنسان والإنسانية وكونه كائن تلقائي وتوهم المعرفة مما يحول بين الانسان وبين التغيير المطلوب. وبعد ذلك اختتم اللقاء بتقديم المشرف على المنتدى دروع التقدير للضيف المكرم وللمشاركين في الندوة.