استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف الناقد والكاتب السعودي الأستاذ محمد حسين الحرز، في محاضرة بعنوان “المجتمع الأحسائي الشيعي: مقاربات أولية في الوعي الديني”، وقد أدار الندوة عضو اللجنة المنظمة للمنتدى الكاتب الأستاذ ذاكر آل حبيل، الذي قدم الأستاذ الحرز معرفاً به كاتباً وناقداً وشاعراً، من مواليد الأحساء عام 1387هـ، له مجموعتين شعريتين، وكتب في مختلف الملاحق الثقافية الصادرة للصحف والمجلات السعودية، وشارك في العديد من النشاطات الأدبية والثقافية في داخل المملكة و خارجها.
بدأ الأستاذ محمد الحرز محاضرته بذكر مجموعة ملاحظات حول ورقته، مؤكد على أهمية أخذها في الحسبان عند تلقي وقراءة هذه الورقة، ثم دخل إلى موضوعه بطرح المقدمة التالية: لماذا الوعي الديني ومن ثم لماذا الأحساء؟!! فيما يشبه التوجس والتردد يدخل الأحسائيون فضاء الأسئلة الوجودية برغبة جامحة للمساءلة والفهم؛ فهم الذوات، فهم تاريخها العقائدي والاجتماعي والثقافي، فهم وعيها وتحولاته المعرفية في التاريخ والثقافة والفكر، وليس الارتهان لهذا الفضاء سوى تعزيز موقعية الوعي المعرفي في حياتها وتغليبه على الوعي الإيديولوجي، بمضامينه المغلقة، وإذا كنا لم نتجاوز الحافة في طرح الرؤى والمناظير النقدية على ثقافتنا الأحسائية الشيعية فيما مضى، فإن اللحظة الراهنة تستدعي هذا النوع من الطرح، بل إنها تحتم علينا ذلك، فالأسئلة أصبحت متراكمة، والرجوع إلى البدايات يتطلب مساحة من الحرية لضخ أكثر المفاهيم والقيم تعقلا وإدراكا للبعد الديني من جهة والبعد الثقافي-المعرفي من جهة أخرى، في نصوصنا المقدسة.
وأضاف أن ذلك ليس بالمنال الصعب، فجيلنا ينبغي أن يكون حاضرا في العمق من المساءلة والحوار والمثاقفة والتدفق المعرفي، وأتمنى أن يؤدي الحوار المأمول إلى استضاءة أكثر المناطق استغلاقا في وعينا الديني، المأزوم بثقافته وقيمه وتدينه ونظرته إلى الآخر والعالم، وأن يشكل ذلك جسرا تعبره الأفكار والتصورات والرؤى، بحيث يمتدّ إلى العمق من ثوابتنا العقائدية والإيمانية المشتركة تاريخيا وجغرافيا، بداية دعونا نتخفف كثيرا من ثقل الأسئلة المطروحة في المقدمة، وبدلا من صرامة المنطق التعليلي في كلمة (لماذا)، والتي تفضي في أغلب الأحيان إلى التجريد، فإني سأفترض انزياحا يقودني إلى السؤال التالي: كيف تشكل الوعي الديني الشيعي في المنطقة (الأحساء)!؟ وما هي التحولات التي طرأت عليه بنيويا ونسقيا!؟ على اعتبار أن هذا الوعي يمثل مجمل المفاهيم والتصورات والقيم، التي تضخ السلوك الثقافي والاجتماعي، والطقوسي بالحياة والحركة، لدى الإنسان الشيعي في سياق حياته اليومية.
وإجابة على ذلك، رد الحرز بقوله أن السؤال يفضي بنا بالضرورة إلى مواجهة إشكالية مهمة، هي إشكالية الوعي بالتاريخ الشيعي في المنطقة، حيث تكمن أهميتها، في تاريخها الذي يتسم بالذاكرة العقائدية المشتركة لأبنائها عبر عدة أجيال متلاحقة، الأمر الذي يجعل من هذه الذاكرة بنية ثقافية، تستند مكوناتها المعرفية في الغالب، على مرجعيات مستعارة من الخارج، بمعنى أن الرواد الأوائل في المنطقة، الذين أخذوا على عاتقهم التصدي لعلوم الدين، ومن ثمّ نشرها في مجتمعاتهم، لم يكن في قاموسهم الثقافي أيّ مفهوم أو معنى لكلمة الهوية/الوطن، أو الثقافة/الجغرافيا، بل كان مفهوم العقيدة بوصفه مفهوما يختزل في داخله جميع المفاهيم والقيم الأخرى، التي لها صلة مباشرة بالإنسان والمجتمع والوطن والثقافة والتاريخ، هو المفهوم الأكثر التصاقا بالحياة عندهم، كونه يعبر من جهة عن رغبة ناستولوجية مفقودة في الهامش، ويعبر من جهة ثانية عن التأمل اليوتيبي لمصير الإنسان ونهايته الحتمية بالموت.
بعد ذلك، قام الناقد الأستاذ الحرز بتعديد مستويات خطابه الذي ارتكز فيه على منهجية نقدية ذات طابع انثروبولوجي، وبسميائية تستقرئ مكونات الخطاب الشيعي في تاريخيته القارة في الذات الشيعية، الذي حدد متوالياتها الواعية، بأنها ذات تسكن الزمن الدائري، فهي ذات هاجسها مشدود في طرفه إلى التاريخ الحنيني المتسم بالبعد القيمي، وهاجس مشدود في طرفه الآخر إلى المستقبل في بعده الميتافيزيقي، بحيث يبقى الوعي بالحاضر، وكأنه متوالية سردية، يتم استدعاءها من الماضي، أو تكرارها، كلما تأزمت الذات في وجودها الراهن، أو كلما عجزت عن تحقيق المعنى الوجودي والمجازي لوجودها وفق الإيقاع الحركي للحاضر المعرفي.
ثم بين ما للتواصل بين الذات الشيعية، ومزاراتها الشريفة، من تلازم معناه أن الرحلات المتكررة أو الهجرات إلى الديار المقدسة، أو المزارات الشريفة، وما يصاحبها من خطابات تقديسية، تذهب إلى العمق في صميم المعتقد، شكلت قيمة ثقافية طاردة للوعي الثقافي المحلي- ولسنا نعني بالوعي الثقافي المحلي سوى تلك العلاقة التي تجمع بين الإدراكات والتخيلات اللاواعية للذات، وبين ما يحيط بها من أشياء، وما تمارسه من علاقات وسلوكيات اجتماعية وثقافية، يحتم عليها بالضرورة، من خلال تأملها لهذه العلاقة، تأسيس وعيها الثقافي ولو بشكل مبدئي، والقابل للتوسع والتحول زمانيا ومكانيا، لذلك لم تكن هذه القيمة تحدد شكل الحياة الثقافية فقط، وإنما تعدتها إلى أبعد من ذلك، إلى التغلغل في نسيج العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والتحالفات القبلية، باتجاه ما يمكن أن نسميه بـ (الوعي الاستعماري المراوغ).
بعد ذلك، تساءل الأستاذ الحرز، عن انعكاس كل ذلك على علاقتنا مع الآخر المجاور جغرافياً ومذهبياً، وعن طبيعة تعالقنا به وفق ذاكرتنا الثقافية والاجتماعية والدينية، وفي عمق آليات وعينا المشتغل على الفكر والمعرفة، إذ لا يمكن إن نقرأ ذواتنا المذهبية بعيداً عن الآخر المضاد أو المختلف. ثم تكلم عن طبيعة الوعي الشيعي الإمامي من خلال ما ينتجه من خطاب فكري قائلا: “إننا نجد أن مجمل اشتغالاته على الخطاب الإسلامي الشيعي، وسعيه لتجديد حقوله المعرفية، يشكل- برأيي- مقاربة نقدية لا تذهب بأدواتها المعرفية إلى فضاء أفقي، تراعى من خلاله الاختلافات العقائدية والثقافية بين الفرق الشيعية ذاتها على امتداد تاريخها المملوء بالصراعات والتحولات والتحالفات، وإنما ظلت مقاربات رأسية، ما أن تشتغل على موضوعة محددة من موضوعات المعرفة مثل الفقه من جهة، فإنها تحجب بالأدوات ذاتها موضوعة أخرى، هي وثيقة الصلة بها من جهة أخرى مثل تاريخ الوحي خصوصا عندما نأخذ بدلالة تمظهراته عند مختلف الفرق الأخرى، وانعكاس ذلك على النص الفقهي الإمامي”.
وأضاف الحرز أنه “من هنا يتضح مدى الخلل الذي يتسم به الخطاب الشيعي؛ فالمفاهيم التي تقف خلفه، لم توسع من دائرة تعالقاتها النصية، ولم تحاول أن تبحث عن عناصرها البنيوية في سياق الوجود التاريخي للأفكار والتصورات، بل احتمت بسياج دوغمائي تنشط القيم التراتبية والتفاضلية والتنابذية والإقصائية، وتعلي من شأن مفهوم الحقيقة الذاتية،على حساب الاختلاف المعرفي، وليس هذا بالقول الجديد على مجمل خطاباتنا الفكرية التاريخية، ولكن ما أردت أصرح به هو أني لا أعرف تماما كيف يمكن أن ندّعي التجديد، ونحن لم نفك مغاليق التراث الشيعي على الأقل أغلبه إن لم نقل كله، سواء على مستوى نصوصه أو تطوراته التاريخية، خصوصا إذا ما علمنا أن ثلاثة أرباع التراث الإسلامي تملؤه الفرق الشيعية؟
ثم قارب الأستاذ الحرز ورقته بأخذ النموذج التفسيري عند الشيعة ليرتكز عليه في منظوره التفكيكي للتراث، مستخلصاً نتيجة ما رأى بالقول: أن تأسيس وعي تأويلي يعتمد بالأساس على مقولات في التفسير والتأويل متصل بتراثنا، لا ينهض وفق الشروط التي ذكرناها حول وعينا التاريخي بالتراث نفسه.
وطالب الناقد الحرز في نهاية ورقته بضرورة الكشف عن آليات النظر داخل الفكر الشيعى، لكي يتم البحث حول سبل استبدالها المعرفية مع الغير والآخر، بشكل موضوعي، ولكي ينفتح لنا أفقا جديدا ورؤية مختلفة لذواتنا ولثقافتنا عبر تاريخها الفكري، ولكن وهنا السؤال: كيف يكون ذلك؟ وبأي منظور معرفي ينبغي مقاربته؟!
بعد ذلك جاءت المداخلات والأسئلة، بمقاربات موضوعية، لامست الورقة في جلها على نحو الاختلاف مع الأستاذ الحرز، فاعترض الكثير على غياب المنهجية أو عدم وضوحها أو تعددها، مما أربك التلقي، وكانت ردود الأستاذ الحرز موضحة لبعض الإشكالات، ومتوافقة مع البعض الآخر، وأخيراً شكر الأستاذ الحرز، الحضور لحوارهم الجاد والموضوعي والراقي، متمنياً للجميع حسن الإفادة.