ضمن اهتمام المنتدى بالتواصل والحوار البناء مع الكفاءات والنخب الوطنية والتعريف بالمكونات الاجتماعي على المستوى الوطني، استضاف منتدى الثلاثاء الثقافي الكاتب ،الاعلامي علي محمد الرباعي في ندوة تحت عنوان “إطلالة على الحياة الاجتماعية في منطقة الباحة” وذلك مساء الثلاثاء 21 محرم1437هـ الموافق 3 نوفمبر 2015م في أمسية ثرية بالأفكار والمناقشات الموضوعية.
وقد صاحب الأمسية فعالية المعرض الفني للفنان سعيد صالح الجيراني الحاصل على بكالوريوس التربية الفنية والذي يعمل مدرساً لمادة الرسم للمرحلة المتوسطة، حيث عرف الحضور بسيرته الفنية ومشاركاته في مجموعة من معارض كلية التربية الأساسية بدولة الكويت لثلاث سنوات متتالية، وهو أحد المشاركين في أطول لوحة “المحبة والسلام” الشهيرة، وله مشاركات فنية عديدة لتجميل المنطقة، كما تفضل الفنان الجيراني في نهاية الندوة بإهداء الاستاذ الرباعي إحدى لوحاته القيمة.
افتتح مدير الندوة الأستاذ محمد المحسن عضو اللجنة المنظمة بالمنتدى بكلمة آشار فيها إلى ان هذه الندوة تأتي ضمن اطار رسالة منتدى الثلاثاء الثقافي في إقامة الجسور وتقريب المسافات من خلال استضافة الشخصيات الثقافية من كافة مناطق الوطن، للمساهمة في تجسير أواصر التعارف بين مكونات البلد الواحد، وإزالة كافة اللوابس بين هذه المكونات. وبين آن المنتدى نظم أكثر من ثلاثمائة وخمسين ندوة وحلقة نقاشية خلال خمسة عشر عاماً، شاركت فيها شخصيات من مختلف المناطق والتوجهات، وآنه يساهم في التعريف بمناطق المملكة المختلفة والتعارف بين آبنائها حيث آن ذلك يساهم في تعزيز التواصل وتعميق اواصر العلاقة وتقوية اللحمة الوطنية في وقت نشهد فيه انفلات اعلامي يحمل في طياته مختلف اشكال التحريض والتعبئة السلبية ضد بعضنا البعض. وعرف بضيف الأمسية الاستاذ علي بن محمد الرباعي بأنه من مواليد الباحة عام 1385هـ وهو كاتب واعلامي يدير مكتب جريدة عكاظ بالباحة، وباحث صدر له عدد من المؤلفات منها “الصحوة في ميزان الإسلام” و “القرآن ليس دستوراً” و “صراع التيارات في السعودية” كما صدرت له مجموعتان قصصيتان.
بدأ الدكتور الرباعي حديثه بتوجيه الشكر لمنتدى الثلاثاء الثقافي لإتاحته الفرصة لهذا اللقاء الذي جمعته المعرفة والحوار والمثاقفة بإخوة وأحبة، وبدأ بالتعريف بالموقع الجغرافي بمنطقة الباحة التي تقع على سلسلة جبال السراة بين الطائف وأبها وتبعد عن الطائف بـ 190كم وعن أبها 350كم ويسكنها ما يقارب مليون نسمة من قبيلتي غامد وزهران اللتين ترجعان في النسب إلى قبيلة الأزد العربية، وتوجد فيها جامعة وكليات فنية وتقنية وتتشكل من ثمان محافظات. قدم الرباعي إطلالة على الحياة الاجتماعي واصفا الباحة بأنها مجتمع قروي يتألف من فلاحين ورعاة وحرفيين وقليل من التجار، ويتصف – كما بقية المجتمعات القروية – بالتنظيم المدني الذي لا يرقى إلى مؤسسات المجتمع المدني الكبرى.
وأوضح أنه قبل قيام المملكة كان المجتمع المحلي يماثل نموذجاً كباقي المجتمعات الأخرى البسيطة التي تكون قلقة بطبعها على هويتها وعلى مصدر رزقها وأمنها، وتكون حالة التكافل بارزة في كافة جوانب حياتهم. وأوضح أن ذلك كان يتمظهر من خلال الطابع العمراني للبيوت المتلاصقة وطريقة البناء الجماعية، والذي كانت تشارك في بنائها حتى نساء القرية في مرحلة اللياسة بالطين عبر جلب الماء، وكذلك في مظاهر حفلات الأعراس، وظاهرة الصرام الجماعي للقمح. وبين أن المجتمع القروي في الباحة مجتمع ودود، ومجتمع إنتاج لغرض الاستهلاك والمقايضة مع التجار، إلاّ أنه في نفس الوقت تسوده الطبقية أحياناً ويمارس التمييز مع أصحاب المهن والحرف وعلى المرأة في الإرث، وأن الأعراف هي القانون المدني والضابط الاجتماعي في جميع مناحي الحياة الاجتماعية.
كما أشار إلى أن وقوع الباحة في الطريق الجبلي إلى مكة فقد أصبحت ممراً للحجاج من اليمن والهند، وأن هناك حجاجاً استوطنوا وأقاموا وتزوجوا وأنجبوا واصبحوا جزءا من مكونات المجتمع في الباحة. وحول الحالة الدينية في الباحة قديماً، أشار الرباعي بأن الدين يعتبر جزءاً من الطقوس ولم يقف حائلاً دون حوائجهم، والفقهاء هناك درسوا في اليمن ومكة، وكان يغلب على المجتمع في الباحة الحس الصوفي مع ميل إلى التشيع العملي غير المعلن. وعرفت الباحة بالمرونة مع الشرع وأن الدين طقوس وشعائر تغلب عليها الروحانية، إلاّ أن من أخطائهم عدم تطبيق أحكام المواريث على المرأة فهي لا تحصل على نصيبها إلاّ بصعوبة، كما أنهم يمارسون الربا اضطراراً تحت مسمى “دينة”.
وأشار الاستاذ الرباعي إلى خمسة عوامل أحدثت منعطفات في الحالة الدينية في منطقة الباحة تمثلت أولا بالممارسة القاسية لما عرف بـ “إخوان من أطاع الله” في تطبيق الممارسات العبادية على الناس، ثم في الدور الأساسي للشيخ عبد الله السعدي لنشر التوجه السلفي في الباحة، ثم الطفرة المالية الأولى (٧٥-١٩٨٥م) التي حولت المجتمع من اللحمة القروية إلى النزعة الفردانية، ورابعا ظاهرة الصحوة في التسعينات الميلادية التي عززت حضور توجه “الإخوان المسلمين” ودورهم في تأصيل منهج الفرز والتصنيف المذهبي، والعامل الخامس الانفتاح الفضائي والعولمة. واختتم الدكتور الرباعي ورقته بالقول أن القرية فيما مضى تشكل منظومة إنسانية لا تخلوا من استثناءات على مستوى حقوق الإنسان، وأن الواعظ عندما جاء أخذهم بالقوة إلى أداء العبادات ولم يلتفت إلى السلوك والمعاملات، وأن هذا الازدواج سببه ضعف في التربية على القيم التي تجعل الإنسان يحافظ على إنسانيته ويعود اللاإنساني إلى المنظومة الإنسانية وهذا يحتاج إلى زمن طويل ولكننه ممكن.
بدأت مداخلات الحضور بمشاركة للدكتور محمد الخنيزي عضو مجلس الشورى الذي أثنى على الطرح الموضوعي للدكتور الرباعي مبديا استغرابه من التغير المفاجئ للنظرة حول التعايش الذي كان سائداً في السبعينات مع أهلنا من الباحة والذي تحول عند البعض إلى حالة من الكره للمختلف مذهبيا. وقال الرباعي تعليقا على ذلك أن تحول الدين إلى سلطة، وتغلغل الاخوان المسلمين في المناهج والاعلام له أثر بالغ في هذه الظاهرة، مشيراً إلى انه حينما كان متأثراً بتيار الصحوة مارس الخطابة المتطرفة يوم كان شيخاً وإماماً للصلاة، ولكنه بعد تشخيصه لهذا الخطأ اعتزل هذا التيار واعتذر للناس عن تلك الخطابات. وحول سؤال الأستاذ عيسى العيد عن موقف أهل القرية من تحوله عن نهج الصحوة وأسباب هذا التحول أجاب بأن هناك عدة عوامل لعل من أبرزها انعكاس الجو العائلي الذي كان أقرب إلى الانفتاح وإلى البيئة المهتمة بالحياة العامة، كما أن طبعه بعدم معاداة الأصدقاء خفف من حدية الموقف من نهجه الجديد.
وحول فكرة كتابه “القرآن ليس دستوراً” قال بأنه رداً على شعار جماعة الاخوان المسلمين أراد تبيان أن القرآن الكريم نصا دينياً ثابتاً يمكن أن يستقى منه بعض الأحكام المدنية ولا يكون دستوراً للدولة الحديثة، أما الدستور فهو مصطلح حديث يترتب عليه قوانين وأنظمة. الأستاذ عبد العظيم شلي تحدث عن تجربته يوم كان طالباً في معهد التربة الفنية للمعلمين بالرياض لمدة ثلاث سنوات لم يسمع خلالها أي كلمة أو نبرة في الاتجاه الطائفي مع ما يضمه المعهد من الطيف المتنوع من كافة مدن المملكة والسبب أن الصوت الديني لم يكن طاغياً في الحياة العامة. وتساءل الاستاذ عدنان السادة حول أهازيج وتراث الباحة وغيابها في هذه المرحلة، عقب الرباعي بقوله أن مشروع الأنسنة الذي طرحه المفكر “اركون” كانت الناس تعيشه فالأرض الزراعية والحيوانات كان لها أسماء تنادى بها باعتبار أنها جزء من الانسان والتخاطب معها ببعض الأهازيج. وتساءل الأستاذ علي الحرز عن انطلاقة مغادرته تيار الصحوة وكيف تمت، فأجاب الاستاذ الرباعي بأنه كانت لديه مجموعة تساؤلات ظل يبحث عن إجابة شافية حولها لفترة طويلة إلى أن أتيحت له فرصة الدراسة بجامعة الزيتونة عام 1993م فكان فضاءً فكريا جديداً تعرف فيه على عدد من الأساتذة والمفكرين ساهمت في تطوير رؤاه وأفكاره.
وطرح الأستاذ زكي البحارنة عن رؤية الرباعي في معالجة معضلة الحاضن الاجتماعي للخطاب المتطرف وكذلك الإرهاب، فأجاب بأن من الأهمية القصوى تأصيل الإيمان بوحدة الوطن للناس وهي مسئولية مشتركة بين الأسرة والتربويين مع دور الدولة في تنقية الإعلام والخطاب الديني، لأن إدانة الإرهاب وحدها لا تكفي ولا بد من توفير البديل من خلال إظهار القيم الإنسانية في التعامل مع مكونات المجتمع. وعلق الأستاذ أحمد الخميس عن أسباب تحول المجتمعات العربية التي كانت تعيش حالة من الحداثة والانفتاح كتونس والكويت لتأخذ منحى سلبياً نحو التطرف، فأرجع الرباعي أسباب ذلك إلى أن المجتمعات تعرضت في لحظة معينة إلى عملية تدجين من خلال التوظيف المضلل لبعض الأعراف والقناعات القاسية وتعزيزها باسم الدين وهي قد تكون مخالفة لتعاليم الدين، كما أن الحداثة في مجتمعاتنا لم تكتمل لأن ما جاءنا منها فقط حداثة أدبية بخلاف المجتمعات الغربية التي رافق فيها الحداثة الأدبية تحديث مجتمعي فحدث الانسجام وأنتج التنوير. وفي ختام الندوة التي تميزت بالثراء في الطرح والنقاش، شكر مدير الندوة المحاضر على مشاركته وحديثه، كما شكر جميع الحضور على تفاعلهم في النقاش.
المحاضرة الكاملة: