ضمن دوره في الاهتمام بالشأن الوطني ومساهمته في تعزيز القيم المشتركة، أقام منتدى الثلاثاء الثقافي أمسية ثقافية ثرية حضرها العديد من النخب والمهتمين تحت عنوان “القيم الوطنية في مواجهة الطائفية: قراءة في التجربة الأوروبية” باستضافة الكاتب والباحث وحيد الغامدي وذلك مساء الثلاثاء 1 شعبان 1436هـ الموافق 19 ما يو 2015م.
وقبل بدء الندوة، تحدثت الفنانة ماجدة علي الجشي عن تجربتها الفنية، مستعرضة بعض أعمالها في هذا المجال، ومشاركتها في أنشطة وملتقيات فنية متعددة، كالملتقى التشكيلي للفنانين الشباب بجمعية الثقافة والفنون بالدمام عام 2013م، ومعرض القنصلية الأمريكية بالظهران، وغيرها من التجارب الفنية المتنوعة والثرية. كما تحدث المصور الفوتغرافي صادق منصور السليمان حول مشروع موسوعة القطيف المصورة والذي عمل فيه على جمع اكبر عدد من الصور الفوتغرافية لمختلف المراحل التاريخية للقطيف، ويهتم بتوثيقها بأسماء الأشخاص والأعيان والمواقع والأحداث.
أدار الندوة الأستاذ محمد المحسن، عضو اللجنة المنظمة بالمنتدى، معرفا بضيف الندوة الأستاذ وحيد الغامدي؛ الحاصل على بكالوريوس أدب عربي من جامعة أم القرى، ويعمل معلما للغة العربية بالهيئة الملكية بينبع ومنسقا لأنشطة الطلاب الموهوبين ومدربا للبرامج الإثرائية، وهو كاتب سابق في صحيفة التقرير، كما أنه مهتم بالشأن الفكري والثقافي العام، وصدر له كتاب مطبوع بعنوان (حكاية التدين السعودي).
في البداية، تحدث الأستاذ وحيد الغامدي عن الطائفية باعتبارها كابوسا شنيعا يضرب ويهدد استقرار الأوطان العربية، موضحا أن توغلها في بعض البلدان أدى إلى تفكيكها وهدمها ونتج عن ذلك حروبا طائفية. وقدم الأسباب لاختيار التجربة الأوروبية بدلا من النماذج المحلية والعربية؛ بتفسير الحالة الطائفية في العراق وسوريا باعتبارها منطلقة من قناعات مسبقة، كما أن مجهولية المستقبل يعيق إيصال الرسالة الاستشرافية، ولهذا فالتجربة الأوروبية تظل الأمثل لكونها بعيدة ويقف الجميع منها بحيادية، كما أنها تجربة نضجت وانتهت وغيرت الأوضاع فيها على النقيض.
واعتبر الغامدي أن المنطق الطائفي وضع حول ذاته جملة من الموانع أمام تنبيهات المخاطر بحيث يصعب اختراقها لكونه واقع تحت ضغط الفترة اللحظية. وقدم تعريفات اجتهادية متعددة للطائفية من بينها: الانسياق حول مجموعات فئوية صغيرة تحمل بذور التعصب داخل الدين الواحد، أو أنها حالة الكراهية التي تبنى على أسس عقائدية. وأشار إلى أنه على الرغم من وجود تراث إسلامي واسع يدعو للتسامح بين الاديان، لكنه ينعدم في تناول التسامح داخل الدين الواحد، لذا فأن الطائفية تتغذى على عنصر رئيسي هو التنافس على النقاء العقدي. وقدم ضيف المنتدى لمحات تاريخية حول تطور الصراع الديني في اوروبا منذ انطلاق حركة (مارتن لوثر هيس) الاصلاحية ضد الكاثوليكية المسيطرة في الديانة المسيحية، وتطور الصراع بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي.
ونتج عن ذلك العديد من الصراعات الفكرية والماية أدت إلى قيام صلح “اكسبرو” عام 1555م يعطي الحق لأمير البلدة باختيار المذهب وفرضه على الناس.. وعلى إثر ذلك، بدأت عمليات الإضطهاد الديني في فرنسا، وانتشار المذابح ضد البروتستانت، فلم يكن هناك حصانة داخلية ولا وعي بالآليات ولا مفاهيم الأرض والقيم المشتركة، ما أدى إلى استمرار المذابح والقتال من 1562م إلى 1593م وكان محورها التنافس للتمثيل الحصري للدين. وحدث تدخلا عسكريا من الملك هنري الثاني، الذي أمر جنوده بهدم منازل البروتستانت، وكذلك من القائد فرانسوا دي جينز الذي أمر جنوده باقتحام مقر العبادة الخاص بالبروتستانت. هذه الممارسات الطائفية أشعلت نار الحماس في أوساط الكاثوليك لمهاجمة البروتستانت، ودار قتال بين الطائفتين نتج عنه تخريب للكنائس وقتل عدد كبير من رجال الدين.
وكان الملمح الابرز في هذا الصراع أن قام البروتستانت الفرنسيون بالتحالف مع ملكة بريطانيا، والكاثوليك بالتحالف مع ملك اسبانيا وضاعت نتيجة لذلك المفاهيم والقيم الوطنية بسبب الاستقواء بالأجنبي وفتح الوطن كساحة حرب مفتوحة. وقد حصلت في عام 1572م مذبحة سانتباريو ضد البروتستانت أثناء احتفال ديني للملكة كاثرين والدة الملك شارل التاسع وقتل فيها بضعة آلاف. وبمجيء هنري الرابع، توصل في عام 1598م إلى صلح للقضاء على الخلاف المسلح بين الطائفتين، بتقديم جملة من الإصلاحات التنموية، كالمساواة الوظيفية، ما حقق إزدهارا وإصلاحا داخليا وخارجيا، فاضت على إثره خزينة الدولة. لكن بعض المتطرفين من الكاثوليك لم يهتموا بالإصلاح، فأغتيل هنري الرابع على يد كاثوليكي متعصب عام 1610م.
وطرح المحاضر تجربة حرب الثلاثين عاما في ألمانيا (1618م – 1648م)، والتي تجدد فيها تدهور العلاقات بين الطائفتين، وذلك بعد أن الملك بوهيميا فرديناند الثاني الكاثوليكي بهدم كنائس البروتستانت وسحقهم وإجبار من بقي على قيد الحياة باعتناق الكاثوليكية. وأدى ذلك إلى تدخل الدنمارك بعد شعور البروتستانت بلاخطر على وجودهم أيضا، ثم تدخل السويد بقيادة الملك جوستاف أدولف، وتحولت الصراع الديني إلى حروب سياسية، تظافرت تعقيداتها وتفاقمت لتخرج عن نطاق ألمانيا وقتل خلالها حوالي 20 ألف إنسان.
بعد هذه التجربة المريرة والصراعات الدموية، نتج عنها ولادة إرادة جادة للصلح والتعايش، وأقيم مؤتمرا أوروبيا يمثل كافة الأطياف، وقدمت مواثيق عديدة حول السماح لاتباع لوثر بالتمتع بالحرية الدينية، واحتفاظ الكاثوليك والبروتستانت بما لديهم من أملاك وأوقاف كنسية، وعدم السماح لأي أمير بإجبار رعاياه على اعتناق مذهب ما. وخلفت هذه الحروب الدينية؛ ضعف في الحكومات المركزية، وتفكك المدن والولايات الألمانية، وانتشار الفقر والجهل والامراض. ووصف الأستاذ الغامدي الحروب الدينية بأنها تتميز بطول مدتها، حيث أنها لليست كالحروب السياسية التي تستند على المصالح المؤقتة، فالمعتقدات مادة محركة تغذي الصراع، كما أنها قابلة للانتشار والانتقال السريع، وتسبب في ضياع حدود الوطنية، وفقدان قيم الأمن والسلم كالشراكة الوطنية.
وقدم رؤية لمعالجة الحروب الدينية والصراعات المذهبية، من خلال تعزيز القيم الدينية، ووجوب تراجع الخصام الديني أمام المشتركات الكبرى، وفهم ظروف الواقع من خلال المرحلة الزمنية المعاصرة بالتصالح مع الذات، والإهتمام بالاصلاح والتصحيح الديني، وتعزيز مفاهيم الوطنية في المناهج بدلا من الوعظ الديني، والحزم الاعلامي وسن التشريعات، ومراقبة منبر الجمعة، وتأكيد التصالح بين المكونات المختلفة. كما أشار إلى أهمية تدريس التاريخ لبث العظة، وتجذير مفاهيم الانتقال الحضاري، معتبرا الفن هو أقرب الأدوات للوعي الجماهيري ويمكن استثماره للتوعية، نظرا لامتلاكه للأدوات الفعالة للتأثير.
بعد ذلك طرحت مداخلات للحضور، فعلق الدكتور توفيق السيف على المبالغة في تصوير الصراعات باعتبارها حصرا ذات مصدر ديني كالتعصب، مشيرا إلى أن هناك دوافع متعددة في حالات مختلفة منها السياسية والاقتصادية والخوف على الوجود، وأشار إلى أن النقد الذاتي لا علاقة له بتخفيف العنف وأن التصحيح قد لا يؤدي للسلام. وأشار الأستاذ زكي ابو السعود إلى أن أوروبا شهدت تحولا اقتصاديا اجتماعيا حينها، كالتحول من علاقات إقطاعية لعلاقة إنتاجية الذي يعد تغيرا بنيويا اجتماعيا، والحروب القائمة في المنطقة هي سياسية بامتياز ومصالح متبادلة ومحاولات توسع.
وتساءل الأستاذ علي البحراني عن آراء العقلاء المعتدلة وواقع الحال المتشدد والمصر على الاختطاف، ورأى الأستاذ أحمد الخميس أن الحداثية المنقوصة وتشوه الدولة الوطنية والمدنية هو ما أدى الى هذا الانحدار والتراجع. وعلقت الأستاذة نسيمة السادة على أهمية ابراز الحلول المطروحة باعتبار الأسباب السياسية، وبين عضو مجلس الشورى الدكتور محمد الخنيزي أن الخلافات السياسية أقل دواما من الصراعات الدينية، في حين أن استخدام الدين يكون لتحقيق أغراض سياسية، حيث أن التعايش في المنطقة كان سائدا والوضع السياسي هو الذي تغير.
وأعتبر الدكتور سعد الناجم أن الإندماج هو المفهوم الأنسب مقابل التعايش، وأن ثنائية السياسة والدين موجود في داخل المذهب الواحد، فهناك صراعات تحركها السياسة في أصلها، فنسبية استقلال رجل الدين عن إطاره السياسي والاجتماعي يكون سببا في غياب الحرية، مؤكدا على أهمية الاهتمام بالمناهج التعليمية وضرورة تدريس الثوابت فيها.
وتحدث الأستاذ زكي البحارنة عن استشراف المستقبل وتشخيص المآل المتوقع حدوثه في المنطقة العربية، وشدد على دور النخب الثقافية في هذه التوعية. وأشار الاستاذ خالد النزر إلى ضرورة تعزيز القيم الوطنية للتحصين ضد الطائفية، وتساءل عن إمكانية الخروج بحلول عملية في هذا المجال. وعلقت الأستاذة إيمان الصفار على دور الفن في معالجة هذا الصراع، باعتباره غير متاح بالصورة الكاملة، فلازال محرما بالنسبة للبعض، كما استفهم الدكتور حسين الخباز عن دور العقل في فهم الشراكة في الأرض كأحد بواعث المواطنة.
المحاضرة الكاملة: