في إطار سعيه لتناول القضايا المعرفية من جوانب متعددة، نظم منتدى الثلاثاء الثقافي بالقطيف ضمن برنامجه للموسم الثقافي الخامس عشر ندوة تحت عنوان “مناهج المعرفة بين المثقف والفقيه”، وذلك مساء الثلاثاء 28 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 17 فبراير 2015م. واستضاف المنتدى لهذه الندوة كل من الشيخ الدكتور فيصل العوامي، والكاتب والباحث السيد أحمد النمر وأدارها الإعلامي عبد الباري الدخيل.
تضمنت الأمسية معرضاً فنياً للأسبوع الثاني على التوالي أقامته فنانة “المنمنات” إشراق العويوي، التي حازت على العديد من الجوائز المحلية والإقليمية على أعمالها الفنية الدقيقة، والتي أضافت إلى هذا الفن اللمسة الخليجية لتجعل منه أداة فنية جديدة في المنطقة. وأشارت في كلمتها التي ألقتها بالمناسبة أن المنمنة تعني الإنتاج الفني صغير الأبعاد، ويتميز بدقة الرسم والتلوين، ونال معرضها المتميز إعجاب واستحسان الحضور.
في بداية الندوة قدم مديرها الأستاذ عبد الباري الدخيل مدخلا للحوار شمل فيه أبعاد واشكالات العلاقة بين المثقف والفقيه مستعرضا بعض المقارنات في أنماط مصادر ومناهج المعرفة لدى كل منهما. وبين أن الغرض من طرح هذا الموضوع هو التعريف بمضامين ومصادر المناهج المتبعة للفقهاء والمثقفين. وعرف الشيخ الدكتور فيصل العوامي بأنه من مواليد القطيف، ودرس العلوم الدينية المختلفة على يد العديد من كبار أساتذة الحوزة العلمية، بالإضافة إلى تميز خطاباته المنبرية، فهو كاتب مميز وباحث في القضايا القرآنية والدينية، وألف عشرات الأبحاث والدراسات المنشورة في مختلف المجالات الدينية والفكرية والاجتماعية. أما الأستاذ السيد أحمد النمر فهو من مواليد منطقة الأحساء شرق السعودية وهو كاتب وباحث وأديب، وصدرت له دراسات ومقالات متفرقة بعدد من الدوريات والصحف، كما ألف “الخطاب القرآني”، “شهادة كربلاء”، “الفكر الامامي الاثني عشري في كتاب نقد العقل العربي للجابري”.
في البداية تحدث الشيخ فيصل العوامي عن مفهموم مصطلحي “المثقف” و”الفقيه”، وذلك من منطلق مجالات الإهتمام لدى كل منهما مشيرا إلى أن الفقيه ينحل إلى عنوانين، الأول الإنشغال بالجانب التشريع الفقهي اي المنشغل بالفتوى، والثاني الانشغال بالعقائد أو علم الكلام. أما “المثقف” فهو – بحسب الشيخ العوامي – المختص بالقضايا الفكرية والثقافية العامة خارج إطار اهتمام الفقيه، ويمارس دور المتابع والناقد والمهتم. وأشار الشيخ العوامي إلى أننا بحاجة لمعرفة مجالات اهتمام كل من المثقف والفقيه حتى نكتشف مجالات الإلتقاء بينهما، موضحا أن أحد اهتمامات الفقيه هو الحسم في الفتوى والعقائد، وهو الأصل الذي يهتم به الفقيه، فالفقيه عندما يتحدث عن الشريعة، فهو يتحدث عن الحكم الذي يجب أن يتم الأخذ به.
واضاف الشيخ فيصل العوامي أن المثقف لا يدعي أنه يشرع أو يتدخل في حسم العقائد، وهذا ما كان يجيب به الدكتور محمد أركون على سبيل المثل في رده على من يقول أنه يتدخل في أمور الشريعة والفتوى، موضحا أن الجامع بين الفقيه والمثقف هو إعمال التفكير، وليس الحسم في الشريعة والعقائد التي هي من اختصاص الفقيه. وحول العلاقة بين كل من الفقيه والمثقف، طرح العوامي أن الفقيه ينتظر من المثقف أمران هما: التكلم في مجال الإختصاص، والبحث بشمولية، مشيرا إلى ان الفقيه يؤصل للعقل وهو يمارس الاستدلال العقلي في بعض الخصائص. وفي موضوع النص أشار الشيخ العوامي إلى أن المثقف لا ينفي صلاحية النص في النص، لافتا إلى أنه قد يكون هناك من يدعو لعزل النص في التشريع وهم أقلية، مضيفا أنه يرى أن المشكلة ليست في محورية العقل بل هي في منهج قراءة النصوص، لأن الفقيه يستند على منهج علمي تقليدي في قراءة النص بطريقة مختلفة عن المثقف، بينما يتبع المثقف مناهج حديثة كاالبنيوية والهرمنيوطيقا وهي التي يستند عليها المفكر أيضا كأركون مثلا.
وأشار الشيخ العوامي إلى الفارق بين منهجي الفقيه والمثقف موضحا أن الأساس الذي يعتمده الفقيه هو النص ودلالات النص، بينما يعتمد المثقف في الأصل على العقل المجرد، مضيفا أن هناك دعوات من المثقف لاعتماد المناهج الجديدة في تفكيك النص الذي صدر في زمان مضى. ولفت النظر إلى أنه إذا أردنا تغيير طريقة التفكير، فيجب أن نغير المباني الأصولية، وهو منحى اتجه إليه الشهيد الصدر، مشيرا إلى أن الحوزة العلمية في إيران – خصوصا الفارسية منها – بدأت التوجه للأخذ بالمناهج الجديدة عكس المدارس الدينية العربية. وأكد الشيخ العوامي على أن المثقف في المقابل ينتظر من الفقيه استخدام المناهج الحديثة، والنظر للمنهج من ناحية إنسانية شاملة ومواكبة حركة الفكر الإنساني، كالاكتشافات العلمية المهمة التي لولاها لما تم تفسير بعض النصوص. وأضاف أنه كلما كان المجتمع أوسع ثقافة، كلما ساهم ذلك بدور أفضل للفقيه، فالفقيه في إطلاقه الفتاوى يتأثر بالجو الثقافي والاجتماعي والعلمي السائد، مشيرا إلى أن هناك تصورات مغلوطة عند المجتمعات الشيعية تحديدا منها أن المكلف ملزم بإتباع الفقيه في كل القضايا وهذه خطيئة كبرى، فهناك فارق بين الاستنباط وتشخيص الموضوعات.
وتحدث الباحث السيد أحمد النمر عن تعريفه للمثقف بأنه كل إنسان يمتلك رؤية في هذه الحياة ولا تقتصر على من ينطق أويكتب، بل تشمل مختلف مجالات الفنون والتأثير والتعبير كالرسام والكاتب والشاعر ومن على شاكلتهم الذين يمكن أن يدخلوا في دائرة المثقفين. وفي سياق الحديث عن مناهج المعرفة بين «الفقيه والمثقف» فإن تعريف مفهوم «المثقف» يمثل معضلة كبيرة، فهو مفهوم لم يتفق المثقفون أنفسهم على تحديده ولا تحديد دوره ووظيفته، فهناك من الفقهاء من كان مثقفاً، وله تأثير في المسيرة العامة للمجتمع.
وحول العلاقة بين المثقف والفقيه، أكد السيد النمر على أنه نظرا لما يشهده العالم من انحسار بعض الفلسفات التي كانت تحكمه كالماركسية والتحليلية والوجودية، فقد حدث أن بعض المفاهيم أصبح لها حضورا أكبر في المشهد الثقافي العام، مثل الحرية، العدالة، الانفتاح على الآخر، المشاركة، المجتمع المدني. ونتيجة للإحباط الشديد في عالمنا العربي- كمسرح للتحولات الفكرية – فهو يشهد حضورا كثيفا للمثقف، حيث يمكن النظر لمسيرة مجتمعنا التاريخية كمساحة لم تخل بشكل خاص من جهد «الفقيه المثقف» الإيجابي والحيوي كما نجده في الشهيد السيد محمد باقر الصدر أو العلّامة السيد محمد حسن الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان) وهما ممن أثر بشكل مباشر في مسيرة مجتمعنا، كما غيرهم ممن جمع الصفتين.
وأوضح أن سبب ما يبرز اليوم من خلاف بين المثقف والفقيه هو ظهور فلسفة جديدة تتحكم في سياق الحياة العامة من الحرية والديمقراطية والعلاقة مع الآخر. وأوضح أن هذا التحول الفلسفي المتجدد بعد انحسار الفلسفات التقليدية خلق دوائر خلاف جديدة بين الطرفين. وأشار الباحث النمر إلى التأثير السياسي وتداخله في كافة مجالات الحياة وخاصة في دور المثقف وعلاقته بالفقيه، مستشهدا بالمفكر محمد الجابري الذي يقول “أن الثقافة في العالم العربي والإسلامي تقررها السياسة”، وهذا ما أجزم به في كل مساحة العقل العربي.
وبين أنه أمام الإحباط والتخلف الذي يعيشه إنسان هذه المنطقة تحديدا، فإننا نجد بعض المثقفين ينسبون التخلّف إلى أصولية “الفقيه” لكونه يستحضر التاريخ المسبب لهذا التخلف، لهذا انصب جهد أغلب المثقفين في معالجة الأزمات وما هو واقع، ولم يتحول إلى حالة الإبداع لإنتاج رؤية وابتكار للمستقبل. وأضاف أن الحالة التي يمثلها المثقف إذا تحدث في غير تخصصه، لا يعدو عن دور المترجم والوسيط، كما هو تعريف علي حرب للمثقف بأنه وسيط وليس قائدا.
وأوضح السيد أحمد النمر أنه يجب علينا الاشارة إلى مساحتين متداخلتين وملتبستين وهما (دائرة الممتنع) و(دائرة الممنوع) لأن الأولى هي مساحة لعمل «المفكر» وأما «المثقف» فمساحة عمله هي الثانية (دائرة الممنوع) التي قد يصطدم فيها حينا بالسلطة وحينا بالمجتمع. وأكد على أن ما يعيشه العالم العربي في هذه الفترة يكشف أن «المثقف» عاجز عن صناعة القرار، وهذا يؤكد مقولة محمد عابد الجابري : «اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الاسلامي لم يكن يحددها العلم، وإنما تحددها السياسة» كما جاء في نقده للعقل العربي.
وتخلل الندوة العديد من المداخلات الحوارية حيث تساءل الدكتور محمد الهويدي بداية عن كيفية لأخذ بآراء فقيه معين وفيها مخالفة واضحة للعلم، فبعض الآراء الفقهية لا تتناسب مع معطيات العصر وتغيراته ولا تواكب تطور العلوم. وفي المقابل تحدثت الأستاذة فاطمة الناصر عن أطروحات بعض المثقفين في ان إتباع الفقهاء هو إلغاء للعقل وللآراء الفكرية التي يبشرون بها والتي قد تأتي نتيجة اجتهادات معاصرة.
وفي مداخلة مطولة للأستاذة نسيمه السادة أشارت إلى ان المثقف قد ينحى إلى مناهج تساعد الفقيه لإكمال أبحاثه، وخاصة أن بعض الفقهاء بعيدون عن المجتمع لذلك فهم بحاجة إلى من يكشف لهم عن الواقع ويبلور مرئايت التطور الفكري والثقافي والعلمي، من هنا فإن العلاقة الإيجابية التبادلية بين الطرفين هي غاية في الضرورة . وتساءل الأستاذ محمد نزار عن الأسس التي يتم التفضيل بها بين العلماء في جانب التفسير والتأويل، معلقا على أهمية تأكيد التفوق المعرفي لدى الفقيه، أما الأستاذ زكي أبو السعود فتمنى على المحاضرين التعريف الدقيق لمفهوم المثقف والثقافة بصورة وافية حتى يمكن تحديد دور المثقف وعلاقته بالفقيه بصورة أوضح.
المحاضرة الكاملة: